تفسير سورة البقرة آية 6
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
6- لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ أَوْلِيَائِهِ بِصِفَاتِهِمُ الْمُقَرَّبَةِ إِلَيْهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَ هُدًى لَهُمْ، قَفَّى عَلَى أَثَرِهِ بِذِكْرِ أَضْدَادِهِمْ، وَهُم الْعُتَاةُ الْمَرَدَةُ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ فِيهِمُ الْهُدَى بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الْكُفْرُ: سَتْرُ الْحَقِّ بِالْجُحُودِ. وَالتَّرْكِيبُ دَالٌّ عَلَى السترِ، وَلِذَا سُمِّيَ الزَّارِعُ كَافِرًا، وَكَذَا اللَّيْلُ. وَلَمْ يَأْتِ بِالْعَاطِفِ هُنَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ هُنَا مَسُوقَةٌ لِذِكْرِ الْكِتَابِ بَيَانًا، لَا خَبَرًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسِيقَتِ الثَّانِيَةُ لِلْإِخْبَارِ عَنِ الْكُفَّارِ وهكذَا. فَبَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَفَاوُتٌ فِي الْمُرَادِ، وَهُمَا عَلَى حَدٍّ لَا مَجَالَ لِلْعَطْفِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مُبْتَدَأً عَلَى تَقْريرٍ فَهُوَ كَالْجَارِي عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا: أُنَاسٌ بِأَعْيَانِهِمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَأَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي لَهَبٍ، وَأضْرَابِهِمَا (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) بِهَمْزَتَيْنِ، كُوفِيٌّ. وَسَوَاءٌ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وُصِفَ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَيْ: مُسْتَوِيَةٍ. وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لإِنَّ وَ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَوٍ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، أَوْ يَكُونُ سَوَاءٌ خَبَرًا مُقَدَّمًا وَ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ، أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرٌ لإِنَّ. وَإِنَّمَا جَازَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ خَبَرٌ أَبَدًا لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الْمَهْجُورِ فِيهِ جَانِبُ اللَّفْظِ إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى (من شأنِ الفعلِ أن يكونَ خبرًا على الدّوامِ وأنّه قد يخرجُ عن ذلك إلى أن يكونَ مبتدأ بكونِه مسبوكًا بمصدرٍ). وَالْهَمْزَةُ وَأَمْ مُجَرَّدَتَانِ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَقَدِ انْسَلَخَ عَنْهُمَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ رَأْسًا. (الهمزةُ وأم في الأصلِ للاستفهامِ وقد تنسلخانِ عن معنى الاستفهامِ) قَالَ سِيبَوَيْهِ: جَرَى هَذَا عَلَى حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ، كَمَا جَرَى عَلَى حَرْفِ النِّدَاءِ فِي قَوْلِكَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ [أي لهذه العصابة]. يَعْنِي: إِنَّ هَذَا جَرَى عَلَى صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا اسْتِفْهَامَ (في المعنى لا استفهام)، كَمَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى صُورَةِ النِّدَاءِ وَلَا نِدَاءَ (يعني أيّتها العصابة). وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ بِالزَّجْرِ عَنِ الْمَعَاصِي (لا يُؤْمِنُونَ) جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَوْ خَبَرٌ لإِنَّ، وَالْجُمْلَةُ قَبْلَهَا اعْتِرَاضٌ، (جملة دخلت بين المبتدأ والخبر، ما قبل لا يؤمنون يكون جملةً معترضةً بين المبتدأ والخبر لا محلّ لها من الإعراب) أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. (لا يُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون خبرًا بعد خبرٍ) وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِنْذَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِصْرَارِ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ، (فيقال إنّ الإخبارَ إنذارُ هؤلاءِ الذين علِم الله أنّهم يُقيمون على الكفرِ والحكمةُ فيه إقامةُ الحجّةِ عليهم) وَلِيَكُونَ الْإِرْسَالُ عَامًّا، وَلِيُثَابَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (أي على إنذارِ هؤلاء وإنذارِ الذين يؤمنون أي سبقَ في علمِ الله أنّهم يؤمنون بعد كفرِهم)
https://www.islam.ms/ar/?p=895