تفسير سورة البقرة آية 284
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
284 - لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ خَلْقًا وَمِلْكًا وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يَعْنِي: مِنَ السُّوءِ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يُكَافِئُكُمْ، وَيُجَازِيكُمْ. وَلَا تَدْخُلُ الْوَسَاوِسُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فِيمَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَا اعْتَقَدَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ عَزْمَ الْكُفْرِ كُفْرٌ، وَخَطِرَةُ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ مَعْفُوَّةٌ، وَعَزْمُ الذُّنُوبِ إِذَا نَدِمَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ مَغْفُورٌ. فَأَمَّا إِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ مَنَعَ عَنْهُ بِمَانِعٍ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ فِعْلِهِ، أَيْ: بِالْعَزْمِ عَلَى الزِّنَا لَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ الزِّنَا. وَهَلْ يُعَاقَبُ عُقُوبَةَ عَزْمِ الزِّنَا ؟ قِيلَ: لَا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ اللَّهَ عَفَى عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ بِهِ" رواه ابن ماجه. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِي الْخَطِرَةِ دُونَ الْعَزْمِ، وَأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْعَزْمِ ثَابِتَةٌ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ -رَحِمَهُمَا اللَّهُ-. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ الْآيَةُ [النُّورُ: 19]. وَفِي أَكْثَرِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَزِعَتِ الصَّحَابَةُ -رِضَى اللَّهُ عَنْهُمْ- وَقَالُوا: أَنُؤَاخَذُ بِكُلِّ مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُنَا ؟! فَنَزَلَ قَوْلُهُ: آمَنَ الرَّسُولُ إِلَى قَوْلِهِ: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، فَتَعَلَّقَ ذَلِكَ بِالْكَسْبِ دُونَ الْعَزْمِ. وَفِي بَعْضِهَا: أَنَّهَا نُسِخَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَخْبَارِ.
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ بِرَفْعِهِمَا، شَامِيٌّ، وَعَاصِمٌ، أَيْ: فَهُوَ يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ. وَبِجَزْمِهِمَا، غَيْرُهُمْ عَطْفًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ. وَبِالْإِدْغَامِ أَبُو عَمْرٍو، وَكَذَا فِي الْإِشَارَةِ وَالْبِشَارَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ": مُدْغِمُ الرَّاءِ فَى اللَّامِ لَاحِنٌ مُخْطِئٌ ؛ لِأَنَّ الرَّاءَ حَرْفٌ مُكَرَّرٌ، فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَاعَفِ، وَلَا يَجُوزُ إِدْغَامُ الْمُضَاعَفِ. وَرَاوِيهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: مُخْطِئٌ مَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَنُ وَيَنْسُبُ إِلَى أَعْلَمِ النَّاسِ فِي الْعَرَبِيَّةِ مَا يُؤْذِنُ بِجَهْلٍ عَظِيمٍ. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالتَّعْذِيبِ وَغَيْرِهِمَا قَدِيرٌ قَادِرٌ.
https://www.islam.ms/ar/?p=1140