تفسير سورة البقرة آية 25
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
25- سُنَّةُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ تَنْشِيطًا لِاكْتِسَابِ مَا يُزْلِفُ، وَتَثْبِيطًا عَنِ اقْتِرَافِ مَا يُتْلِفُ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْكُفَّارَ وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعِقَابِ قَفَاهُ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْمَالِهِمْ، وَتَبْشِيرِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالْمَأْمُورُ بِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ كُلّ أَحَدٍ، وَهَذَا أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِعِظَمِهِ، وَفَخَامَةِ شَأْنِهِ مَحْقُوقٌ بِأَنْ يُبَشِّرَ بِهِ كُلّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبِشَارَةِ بِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى فَاتَّقُوا كَمَا تَقُولُ: يَا بَنِي تَمِيمٍ احْذَرُوا عُقُوبَةَ مَا جَنَيْتُمْ، وَبَشِّرْ يَا فُلَانُ بَنِي أَسَدٍ بِإِحْسَانِي إِلَيْهِمْ، أَوْ جُمْلَةُ وَصْفِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِرْهَاقِ، وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ. وَالْبِشَارَةُ: الْإِخْبَارُ بِمَا يُظْهِرُ سُرُورَ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ [قَالَ الْعُلَمَاءُ] إِذَا قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَيُّكُمْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ، فَبَشَّرُوهُ فُرَادَى عَتَقَ أَوَّلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَ سُرُورَهُ بِخَبَرِهِ دُونَ الْبَاقِينَ، وَلَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَكَانَ بَشَّرَنِي عُتِقوا ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوهُ (لو قال أخبرني بقدوم فلانٍ فهو حرٌّ فبشّروه فرادى هنا يعتِقُ الجميع) ومنه الْبَشَرَةُ: لِظَاهِرِ الْجِلْدِ (أي معناه أنّ من هذه المادّة اشتقّت ، البشرةُ المادّة التي اشتقّت منها هذه وهذه واحدةٌ) وَتَبَاشِيرُ الصُّبْحِ (كذلك) : مَا ظَهَرَ مِنْ أَوَائِلِ ضَوْئِهِ (ليس كلُّ الضّوء بل أوّلِه) وَأَمَّا فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آلِ عِمْرَانَ: 21] فَمِنَ الْعَكْسِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِهْزَاءُ الزَّائِدُ فِي غَيْظِ الْمُسْتَهْزَئ بِهِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِعَدُوِّهِ: أَبْشِرْ بِقَتْلِ ذُرّيَّتِكِ وَنَهْبِ مَالِكَ.
وَالصَّالِحَةُ نَحْوُ الْحَسَنَةِ فِي جَرْيِهَا مَجْرَى الِاسْمِ. وَالصَّالِحَاتُ: كُلُّ مَا اسْتَقَامَ مِنَ الْأَعْمَالِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ (لمّا يذكرُ العلماءُ العقلَ في موضعِ الاحتجاجِ ليس المرادُ الرّأي ، إنّما قصدهم النّظرُ الصّحيح) وَالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْأَعْمَالَ إِيمَانًا لِأَنَّهُ عَطَفَ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ (يقول هذا يردُّ أن تكونَ الأعمالُ إيمانًا أي أصلَ الإيمانِ، أمّا أن يطلقَ على الأعمالِ فهو شيءٌ ثابتٌ ليس عملًا المتردّد والاختلاف الإيمانُ يزيدُ وينقصُ بالنّسبةِ للوصفِ أمّا بالنّسبةِ للأصلِ الإيمانُ لا يزيدُ ولا ينقصُ لأنه إن نقص عن حقيقة مسمّى الإيمانِ فهو شكٌّ وارتيابٌ ولا يكون إيمان وإن زادَ فإنّما زاد في الوصفِ لكنّ الجمهورَ يُطلقون الإيمان يزيدُ وينقص، هذه العبارةُ يطلقونها ومرادُهم هذا) وَلَا يُقَالُ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ بِدُونِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَشَّرَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ؛ لِأَنَّ الْبِشَارَةَ الْمُطْلَقَةَ بِالْجَنَّةِ شَرْطُهَا اقْتِرَانُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالْإِيمَانِ، وَلَا نَجْعَلُ لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الْبِشَارَةَ الْمُطْلَقَةَ، بَلْ نُثْبِتُ بِشَارَةً مُقَيِّدَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ أَيْ: بِأَنَّ لَهُمْ، وَمَوْضِعُ أَنّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ: النَّصْبُ بِبَشِّرْ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، خِلَافًا لِلْخَلِيلِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ.
وَالْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ الْمُتَكَاثِفِ. وَالتَّرْكِيبُ دَائِرٌ عَلَى مَعْنَى السِّتْرِ، وَمِنْهُ: الْجِنُّ، وَالْجُنُونُ، وَالْجَنِينُ، وَالْجَنَّةُ، وَالْجَانُّ، وَالْجَنَانُ (الجَنانُ االعقل، كلُّ هذه الكلماتِ اشتقّت من مادّةٍ واحدةٍ مع اختلافِ معانيها) وَسُمِّيَتْ دَارُ الثَّوَابِ جَنَّةً لِمَا فِيهَا مِنَ الْجِنَانِ (الجنّةُ سمّيت جنةً لأنّ فيها بساتين). وَالْجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ لقوْلِهِ تَعَالَى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [الْبَقَرَةُ: 35] خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ (المعتزلةُ قبّحها اللهُ تقولُ لم تُخلق بعدُ) وَمَعْنَى جَمْعِ الْجَنَّةِ وَتَنْكِيرِهَا: أَنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ كُلِّهَا، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جِنَانٍ كَثِيرَةٍ، مُرَتَّبَةٍ مَرَاتِبَ بِحَسَبِ أَعْمَالِ الْعَامِلِينَ، لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ جَنَّاتٌ مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ صِفَةٌ لِجَنَّاتٍ، وَالْمُرَادُ: مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، كَمَا تَرَى الْأَشْجَارَ النَّابِتَةَ عَلَى شَوَاطِئِ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، وَأَنْهَارُ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَأَنْزَهُ الْبَسَاتِينِ مَا كَانَتْ أَشْجَارُهَا مُظِلّةٌ، وَالْأَنْهَارُ فِي خِلَالِهَا مُطَّرِدَةٌ. وَالْجَرْيا الاطّرَادُ، وَالنَّهْرُ: الْمَجْرَى الْوَاسِعُ فَوْقَ الْجَدْوَلِ وَدُونَ الْبَحْرِ (النّهرُ ما كان أكبرَ من الجدولِ ودون البحرِ) يُقَالُ لِلنِّيلِ: نَهْرُ مِصْرَ، وَاللُّغَةُ الْعاليةُ نََهرٌ، وَمَدَارُ التَّرْكِيبِ عَلَى السَّعَةِ. وَإِسْنَادُ الْجَرْيِ إِلَى الْأَنْهَارِ مَجَازِيٌّ، وَإِنَّمَا عَرَّفَ الْأَنْهَارَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا أَنْهَارُهَا، فَعُوِّضَ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مَرْيَمُ: 4] (قال واشتعل الرّأسُ شيبًا باللّفظِ المعرّفِ بالألفِ واللّامِ بدل واشتعل رأسي) أَوْ يُشَارُ بِاللَّامِ إِلَى الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ الْآيَة [مُحَمَّدٌ: 15] (وتكونُ هذه اللامُ على هذا للعهدِ) وَالْمَاءُ الْجَارِي مِنَ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَاللَّذَّةِ الْكُبْرَى، وَلِذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَنَّاتِ بِذِكْرِ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى سَائِرِ نُعُوتِهَا.
(كُلَّمَا رُزِقُوا) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِجَنَّاتٍ، أَوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ: إِنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ، لَمْ يَخْلُ خَلَدُ [قلب] السَّامِعِ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَثِمَارُ تِلْكَ الْجَنَّاتِ أَشْبَاهُ ثِمَارِ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، أَمْ أَجْنَاسٌ أُخَرُ لَا تُشَابِهُ هَذِهِ الْأَجْنَاسَ. فَقِيلَ: إِنَّ ثِمَارَهَا أَشْبَاهُ ثِمَارِ جَنَّاتِ الدُّنْيَا، أَيْ: أَجْنَاسُهَا أَجْنَاسُهَا وَإِنْ تَفَاوَتَتْ إِلَى غَايَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ (أي من حيثُ حسنُ المنظرِ وحلاوة الطّعمِ وحسن الرّائحةِ في ذلك لا مناسبة، بين هذه وهذه فرقٌ بعيدٌ لكن الجنس واحد ، الأجناسُ متّحدةٌ) (مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي) أَيْ: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنَ الْجَنَّاتِ -مِنْ أَيِّ ثَمَرَةٍ كَانَتْ، مِنْ تُفَّاحِهَا، أَوْ رُمَّانِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ- رِزْقًا، قَالُوا ذَلِكَ. فَـ "مِنْ" الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ كِلْتَاهُمَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّزْقَ قَدِ ابْتُدِئ مِنَ الْجَنَّاتِ، وَالرِّزْقُ مِنَ الْجَنَّاتِ قَدِ ابْتَدِئ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ: رَزَقَنِي فُلَانٌ، فَيُقَالُ لَكَ: مِنْ أَيْنَ ؟ فَتَقُولُ: مِنْ بُسْتَانِهِ، فَيُقَالُ: مَنْ أَيِّ ثَمَرَةٍ رَزَقَكَ مِنْ بُسْتَانِهِ ؟ فَتَقُولُ: مِنَ الرُّمَّانِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الثَّمَرَةِ التُّفَّاحَةَ الواحدةَ أَوِ الرُّمَّانَةَ الْفَذَّةَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ (رُزِقْنَا) أَيْ: رُزِقْنَاهُ، فَحُذِفَ الْعَائِدَ (مِنْ قَبْلُ) أي: مِنْ قَبْلِ هَذَا، فَلَمَّا قُطِعَ عَنِ الْإِضَافَةِ بُنِيَ، وَالْمَعْنَى: هَذَا مِثْلُ الَّذِي رُزِقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَشِبْهُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) وَهَذَا كَقَوْلِكَ: أَبُو يُوسُفَ أَبُو حَنِيفَةَ، تُرِيدُ: أَنَّهُ لِاسْتِحْكَامِ الشَّبَهِ كَأَنَّ ذَاتَهُ ذَاتُهُ. الضَّمِيرُ فِي "بِهِ" يَرْجِعُ إِلَى الْمَرْزُوقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ انْطَوَى تَحْتَهُ ذِكْرُ مَا رُزِقُوهُ فِي الدَّارَيْنِ. وَإِنَّمَا كَانَ ثِمَارُ الْجَنَّةِ مِثْلَ ثِمَارِ الدُّنْيَا، وَلَمْ تَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِالْمَأْلُوفِ آنَسُ، وَإِلَى الْمَعْهُودِ أَمْيَلُ، وَإِذَا رَأَى مَا لَمْ يَأْلَفْهُ نَفَرَ عَنْهُ طَبْعُهُ، وَعَافَتْهُ نَفْسُهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا شَاهَدَ مَا سَلَفَ لَهُ بِهِ عَهْدٌ، وَرَأَى فِيهِ مَزِيَّةً ظَاهِرَةً، وَتَفَاوُتًا بَيِّنًا، كَانَ اسْتِعْجَابُهُ بِهِ أَكْثَرَ، وَاسْتِغْرَابُهُ أَوْفَرَ، وَتَكْرِيرُهُمْ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَ كُلِّ ثَمَرَةٍ يُرْزَقُونَهَا دَلِيلٌ عَلَى تَنَاهِي الْأَمْرِ، وَتَمَادِي الْحَالِ فِي ظُهُورِ الْمَزِيَّةِ (من شدّةِ ما يرون من الفرقِ العظيمِ بين ثمارِ الدّنيا وثمارِ تلك الدّار يقولون هذا الكلام)، وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي يَسْتَمْلِي تَعَجُّبَهُمْ فِي كُلِّ أَوَانٍ. أَوْ إِلَى الرِّزْقِ، كَمَا أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ (كلمة هذا تشيرُ إلى الرّزقِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا يُرْزَقُونَهُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ مُتَجَانِسًا فِي نَفْسِهِ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ: يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالصَّحْفَةِ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْأُخْرَى فَيَقُولُ: هَذَا الَّذِي أُتِينَا بِهِ مِنْ قَبْلُ. فَيَقُولُ الْمَلَكُ: كُلْ، فَاللَّوْنُ وَاحِدٌ، وَالطَّعْمُ مُخْتَلِفٌ. وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيَتَنَاوَلُ الثَّمَرَةَ لِيأكلِهَا فَمَا هِيَ بِوَاصِلَةٍ إِلَى فِيهِ حَتَّى يُبَدِّلَهَا اللَّهُ مَكَانَهَا مِثْلَهَا" فَإِذَا أَبْصَرُوهَا وَالْهَيْئَةُ هَيْئَةُ الْأُولَى قَالُوا ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا جُمْلَةٌ مُستأنفة. كَقَوْلِكَ أي مثال الجملة المعترضة للتقرير: فُلَانٌ أَحْسَنَ بِفُلَانٍ -وَنِعْمَ مَا فَعَلَ- وَرَأَى مِنَ الرَّأْيِ كَذَا، وَكَانَ صَوَابًا. وَمِنْهُ: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النَّمْلُ: 34].
وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ، أَزْوَاجٌ: مُبْتَدَأٌ، وَلَهُمُ الْخَبَرُ، وَفِيهَا ظَرْفٌ لِلاسْتِقْرَارِ مُطَهَّرَةٌ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، لَا طَمِحَاتٍ [ناشزات]، وَلَا مَرِحَاتٍ [فاسدات]، أَوْ مِمَّا يخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ (أي أن أولئك جُعلن مطهّرات من ذلك...) وَمَا لَا يُخْتَصُّ بِهِنَّ مِنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَسَائِرِ الْأَقْذَارِ وَالْأَدْنَاسِ (الله طهّرهن من هذه الأشياءِ كلّها). وَلَمْ تُجْمَعِ الصِّفَةُ كَالْمَوْصُوفِ ؛ لِأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ (مطهّرة مفردٌ أمّا أزواج جمع، لو قيل أزواجٌ مطهّراتٌ لكان من الفصيحِ أيضًا) وَلَمْ يقلْ: طَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّ مُّطَهَّرَةٌ أَبْلَغُ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ لِلتَّكْثِيرِ، وَفِيهَا إِشْعَارٌ بِأَنْ مُطَهِّرًا طَهَرَّهُنَّ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الْخُلْدُ والخلودُ : الْبَقَاءُ الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ. وَفِيهِ بُطْلَانُ قَوْل الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا ؛ يقولون لِأَنَّهُ تَعَالَى وُصِفَ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَتَحْقِيقُ وَصْفِ الْأَوَّلِيَّةِ بِسَبْقِهِ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعَ، فَيَجِبُ تَحْقِيقُ وَصْفِ الْآخِرِيَّةِ بِالتَّأَخُّرِ عَنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ فَنَاءِ الْكُلِّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى بَاقٍ، وَأَوْصَافُهُ بَاقِيَةٌ، فَلَوْ كَانَتِ الْجَنَّةُ بَاقِيَةً مَعَ أَهْلِهَا لَوَقَعَ التَّشَابُهُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَذَا مُحَالٌ (هذا أيضًا من كلامِهم أمّا أهلُ السُّنّة أجابوا) قُلْنَا: الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ هُوَ الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ، وَالْآخِرُ هُوَ الَّذِي لَا انْتِهَاءَ لَهُ، وَفِي حَقِّنَا (أي بالنّسبةِ للمخلوقينَ) الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرْدُ السَّابِقُ، وَالْآخِرُ هُوَ الْفَرْدُ اللَّاحِقُ. وَاتِّصَافُهُ بِهِمَا لِبَيَانِ صِفَةِ الْكَمَالِ، وَنَفْيِ النَّقِيصَةِ وَالزَّوَالِ، وَذَا فِي تَنْزِيهِهِ عَنِ احْتِمَالِ الْحُدُوثِ وَالْفَنَاءِ (أي يكفي في ذلك أنّ غيرَه يجوزُ عليه الفناءُ باعتبارِ ذاتِه أمّا هو لا يجوزُ عليه الفناءُ هذا يكفي في انفرادِ اللهِ بذلك) لَا فِيمَا قَالُوهُ. وَأَنَّى يَقَعُ التَّشَابُهُ فِي الْبَقَاءِ، وَهُوَ تَعَالَى بَاقٍ لِذَاتِهِ، وَبَقَاؤُهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَبَقَاءُ الْخَلْقِ بِهِ (أي باللهِ) ، وَهُوَ جَائِزُ الْوُجُودِ. (بقاءُ الجنّةِ والنّارِ جائزُ الوجود ليس واجبَ الوجودِ أمّا بقاءُ الله واجبُ الوجودِ فليس هناك تشابُهٌ ، بعضُ الذين كانوا ينتسبون إلى الشّيخِ أحمد حارون رحمه الله كانوا يُطالعون في الفتوحاتِ المكيّةِ الذي دُسّ فيه على الشّيخِ محي الدّين بن عربيّ فعلق بأذهانهم شيء ينافي بقاءَ الجنّةِ والنّارِ)
(هذا كلامُ الجهميّة، احتجّت بهذا ، يقولُون كما أنّ اللهَ وصف نفسَه بالأوّلِ بأنّه لم يكن قبله شيءُ وأنّه لم يكن معه شيء في الأزلِ ، كذلك يجبُ أن لا يبقى شيء سوى الله فيما بعدُ حتى تتحقّق الآخريّة هذه حجّتهم ، وهذا الاعتقادُ كفرٌ ، نحن نقولُ الأوليّة الحقيقيّة أي عدمُ العدمِ لا يكونُ إلّا لله ، والآخريّة الحقيقيّةُ التي ليست قائمةً بالغيرِ فهي له لا تكونُ لشيء سواه لكن بقاءُ الجنّةِ والنّارِ ليس بقاءً ذاتيًا ، فلا تنافيَ بين قولهِ تعالى والآخِر وبين اعتقادِ أهلِ السّنّةِ أنّ الجنَّة والنّار باقيتانِ. ابن تيمية صار مثلَهم، في كتابه منهاج السّنّة النّبويّة قال قولَ أهلِ الحقِّ بأنّ الجنّة والنّار باقيتان لا تفنيان ولم يُخالف في ذلك إلّا جهم فكفّره المسلمون ، ثمّ بعد زمانٍ قال الجنّة تبقى والنّار تفنى نعوذ بالله هذا كأنّه مضطربُ الفكرِ.)
https://www.islam.ms/ar/?p=914