تفسير سورة البقرة آية 102
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
102 - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ أَيْ: نَبَذَ الْيَهُودُ كِتَابَ اللَّهِ، وَاتَّبَعُوا كُتُبَ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، الَّتِي كَانَتْ تَقْرَأُهَا عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ أَيْ: عَلَى عَهْدِ مُلْكِهِ، وَفِي زَمَانِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، ثُمَّ يَضُمُّونَ إِلَى مَا سَمِعُوا أَكَاذِيبَ يُلَفِّقُونَهَا، وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكَهَنَةِ، وَقَدْ دَوَّنُوهَا فِي كُتُبٍ يَقْرَءُونَهَا وَيُعَلِّمُونَهَا النَّاسَ، وَفَشَا ذَلِكَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: هَذَا عِلْمُ سُلَيْمَانَ، وَمَا تَمَّ لِسُلَيْمَانَ مُلْكُهُ إِلَّا بِهَذَا الْعِلْمِ، وَبِهِ سَخَّرَ الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ، وَالرِّيحَ.
وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ تَكْذِيبٌ لِلشَّيَاطِينِ، وَدَفْعٌ لِمَا بَهَتَتْ بِهِ سُلَيْمَانَ مِنِ اعْتِقَادِ السِّحْرِ، وَالْعَمَلِ بِهِ.
وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاسْتِعْمَالِ السِّحْرِ، وَتَدْوِينِهِ (مع استِحْلَالِ العَمَلِ بهِ). (قال الماورديُّ في تَفسِيرِه: وَلَكْنَّ الشَيَاطِينَ كَفَرُوا فيهِ قَولانِ: أحَدُهُما : أنَّهم كَفَرُوا بما نَسَبُوهُ إلى سُلَيمَانَ مِنَ السِّحْرِ)
(وَلَكِنْ) بِالتَّخْفِيفِ، (الشَّيَاطِينُ) بِالرَّفْعِ: شَامِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعَلِيٌّ. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ: كَفَرُوا مُعَلِّمِينَ النَّاسَ السِّحْرَ، قَاصِدِينَ بِهِ إِغْوَاءَهُمْ، وَإِضْلَالَهُمْ.
وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ "مَا" بِمَعْنَى: الَّذِي، وَهُوَ نَصْبٌ عَطْفٌ عَلَى السِّحْرِ، أَيْ: وَيُعَلِّمُونَهُمْ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، أَوْ عَلَى مَا تَتْلُو أَيْ: وَاتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَمَانِ لَهُمَا، وَهَمَا عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَلَكَيْنِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا هُوَ عِلْمُ السِّحْرِ ابْتِلَاءً مِنَ اللَّهِ لِلنَّاسِ، مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ كَافِرًا، إِنْ كَانَ فِيهِ رَدُّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ، أَوْ تَعَلَّمَهُ لَا لِيَعْمَلَ بِهِ، وَلَكِنْ لِيَتَوَقَّاهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ كَانَ مُؤْمِنًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتْرِيَدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الْقَوْلُ بِأَنَّ السِّحْرَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَطَأٌ: بَلْ يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ رَدُّ مَا لَزِمَ فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِلَّا فَلَا، ثُمَّ السِّحْرُ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ يُقْتَلُ عَلَيْهِ الذُّكُورُ لَا الْإِنَاثُ، وَمَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَفِيهِ إِهْلَاكُ النَّفْسِ، فَفِيهِ حُكْمُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا تَابَ. وَمَنْ قَالَ: لَا تُقْبَلُ فَقَدْ غَلِطَ، فَإِنَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ، وَقِيلَ: أُنْـزِلَ أَيْ: قُذِفَ فِي قُلُوبِهِمَا مَعَ النَّهْيِ عَنِ الْعَمَلِ.
وغير صحيح مَا قِيلَ: إِنَّهُمَا مَلَكَانِ اخْتَارَتْهُمَا الْمَلَائِكَةُ لِتُرَكَّبَ فِيهِمَا الشَّهْوَةُ حِينَ عَيَّرَتْ بَنِي آدَمَ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ فِي الْأَرْضِ، وَيَصْعَدَانِ بِاللَّيْلِ فَهَوَيَا زُهْرَةَ فَحَمَلَتْهُمَا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، فَزَنَيَا، فَرَآهُمَا إِنْسَانٌ فَقَتَلَاهُ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَهُمَا يُعَذَّبَانِ مَنْكُوسَيْنِ فِي جُبٍّ بِبَابِلَ.
وَسُمِّيَتْ بِبَابِلَ لِتَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ بِهَا. (أولادُ ءادَمَ نَزَلُوا بهَا فَصَارَ أحَدُهُم يَتَكَلَّمُ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ ءاخَرَ وءاخَرُ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةٍ أُخْرَى معَ ءاخَرَ)
وَأَمَّا هَارُوتُ وَمَارُوتُ فَهُمَا مَلَكَانِ مِنَ الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ. وَمَا يُرْوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا شَرِبَا الْخَمْرَ ثُمَّ قَتَلا الطِّفْلَ الَّذِي كَانَتْ تَحْمِلُهُ الْمَرْأَةُ وَوَقَعَا عَلَيْهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ.
وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنَّهُمَا مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ عِصْمَةِ الْمَلائِكَةِ وَمِنْ أَنَّ الزُّهَرَةَ امْرَأَةٌ رَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَاهَا الاسْمَ الأَعْظَمَ فَعَلَّمَاهَا فَرُفِعَتْ كَوْكَبًا إِلَى السَّمَاءِ فَهُو كَذِبٌ وَلَعَلَّهُ مِنْ وَضْعِ الإِسْرَائِيلِيِّينَ.
أَيْضًا مَا يُرْوَى أَنَّهُمَا رَأَيَا امْرَأَةً فَرُكِّبَتْ فِيهِمَا الشَّهْوَةُ فَأَرَادَا الْوُقُوعَ بِهَا فَقَالَتْ حَتَّى تُشْرِكَا فَرَفَضَا فَقَالَتِ اشْرَبَا الْخَمْرَ فَشَرِبَا فَسَكِرَا وَقَتَلا الصَّبِيَّ وَسَجَدَا لِلصَّنَمِ فَهَذَا كَذِبٌ هَذَا خُرَافَةٌ.
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ أَحَدًا حَتَّى يَقُولا حَتَّى يُنَبِّهَاهُ، وَيَنْصَحَاهُ، وَيَقُولَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ابْتِلَاءٌ، وَاخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ. فَلا تَكْفُرْ بِتَعَلُّمِهِ، وَالْعِلْمِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ كُفْرًا.
فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أَيْ: يُعَلِّمُونَهُمْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنَ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ اللَّذَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ: كَفَرُوا وَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أَوْ عَلَى مُضْمَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَيَأْتُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ، وَالضَّمِيرُ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (مِنْ أَحْدٍ) أَيْ: فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ.
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أَيْ: عِلْمَ السِّحْرِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، بِأَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ عِنْدَهُ النُّشُوزَ وَالْخِلَافَ ابْتِلَاءً مِنْهُ، وَلِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ -كَثَّرَهُمُ اللَّهُ- وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ هُوَ تَخْيِيلٌ، وَتَمْوِيهٌ.
وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ بِالسِّحْرِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ بِعِلْمِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبُ الِاجْتِنَابِ، كَتَعَلُّمِ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي تَجُرُّ إِلَى الْغَوَايَةِ،
وَلَقَدْ عَلِمُوا أَيِ: الْيَهُودُ. لَمَنِ اشْتَرَاهُ أَيِ: اسْتَبْدَلَ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ مِنْ نَصِيبٍ، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بَاعُوهَا، وإِنَّمَا نَفَى الْعِلْمَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَعَ إِثْبَاتِهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَلِمُوا عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ الْقَسَمِيِّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِمْ، جَعَلَهُمْ حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
(سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلامُ الْكُفَّارُ كَانُوا يَقُولُونَ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ وَإِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ وَكَذَبُوا، السِّحْرُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ إِنَّمَا الشَّيَاطِينُ كَانُوا مُغْتَاظِينَ مِنْ سَيِّدِنَا سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لأِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ سِرًّا فَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تُطِيعُهُ مَعَ كُفْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمِنُوا كَانُوا يَخْدِمُونَهُ، يَعْمَلُونَ لَهُ أَعْمَالا شَاقَّةً وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْهُم اللَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُ بِهِ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا، لِذَلِكَ كَانُوا مَقْهُورِينَ لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ كَتَبُوا السِّحْرَ وَدَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ ثُمَّ قَالُوا لِلنَّاسِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ بَعْضُهُمْ أَوْ عَدَدٌ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ: هَلْ تَدْرُونَ بِمَ كَانَ يَحْكُمُكُمْ سُلَيْمَانُ، كَانَ يَحْكُمُكُمْ بِالسِّحْرِ احْفِرُوا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا هَذَا الْكِتَابَ فَصَدَّقُوا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لِسُلَيْمَانَ وَضَعَ فِيهِ السِّحْرَ فَكَفَرُوا، الَّذِينَ صَدَّقُوا الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا، لأِنَّ السِّحْرَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الأَنْبِيَاءِ وَلا الأَوْلِيَاءِ.
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ يُقَالُ عَنْهُمْ فُلانٌ رُوحَانِيٌّ أَوْ مَعَهُ جِنٌّ رَحْمَانِيٌّ، احْذَرُوهُمْ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُمْ، أَغْلَبُ هَؤُلاءِ ضَالُّونَ مُفْسِدُونُ يُوقِعُونَ النَّاسَ فِي الضَّلالِ وَالْكُفْرِ لأِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ السِّحْرَ حَلالا وَأَنَّهُ شَىْءٌ حَسَنٌ يَكْفُرُ، لأِنَّ السِّحْرَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْكَبَائِرِ وَاسْتِحْلالُهُ كُفْرٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَغَيْرِهِ. الذي يَعمَلُ الكَهَانَةَ والذي يَطلُبُ مِنهُ ذلكَ والذي يَعمَلُ السِّحْرَ والذي يَطلُبُ مِنهُ ذلكَ كُلٌّ مِنهُم مَلعُونٌ
مما يحرُمُ سؤال الكُهّانِ والعرافين عن الضائعِ والمسروقِ والأمورِ الغَيبيّةِ وهوَ من الكبائر فقد روى مسلمٌ في صحيحه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أتى عرَّافًا فسألَهُ عن شىءٍ لم تُقبَلْ لهُ صلاةُ أربعينَ ليلةً"، وروى الحاكمُ في المُستدركِ والبيهقيُّ في سُننهِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ "مَنْ أتى كاهِنًا أو عرَّافًا فصدَّقَهُ بما يقولُ فقدْ كفرَ بما أنزِلَ على محمّد" أي إن اعتقدَ أنهُ يطَّلِعُ على الغيبِ وليسَ المُرادُ مَنْ يظُنُّ أنهُ قَد يُوافقُ خَبرُهُ الواقِعَ وقَدْ لا يُوافقُ الواقعَ فإنّهُ لا يكفرُ بل يكونُ عاصيًا بسؤالِهِ إيّاهُم، والكَاهنُ هوَ الذي يتَعَاطى الإخبارَ عن الكَائنَاتِ في المستقبَلِ اعتِمادًا على النّظَرِ في النّجُومِ وعلى أسبابٍ ومقَدّماتٍ يَستَدِلُّونَ بها أو غَيرِ ذلكَ كالذينَ لهم أصحابٌ منَ الجِنّ يأتُونَهُم بالأخبارِ فيعتَمِدونَ على أخبارِهم فيُحَدّثونَ الناسَ بأنّهُ سيَحصُلُ كَذَا .
وأمّا العَرّافُ فهو الذي يُخبِرُ عن الْمَسرُوقاتِ ونَحوِها يتَحدَّثُ عن المسرُوقِ أو عن الضَّالّةِ أينَ هيَ ومَا صِفَتُها فَإنَّ هَذا مَن سأَلهُ عن شَىءٍ فصدَّقهُ لم تُقبَل لهُ صَلاةُ أربعِينَ ليلةً أي لا ثَوابَ لهُ لا بصَلاةِ الفَرضِ ولا بصَلاةِ النَّفْلِ كلَّ هَذه الْمُدّة إنْ لمْ يتُبْ)
وَالسِّحْرُ مِنْهُ مَا يَكُونُ بِالاِسْتِعَانَةِ بِالشَّيَاطِينِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَلا يَجُوزُ مُقَابَلَةُ السِّحْرِ بِالسِّحْرِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْجُهَّالِ.
وَمِنْ أَعْمَالِ السَّحَرَةِ وَأَقْوَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَنْجِدُونَ بِالشَّيَاطِينِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلامٍ قَبِيحٍ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلشَّيْطَانِ لِيُعِينَهُمْ عَلَى إِيذَاءِ هَذَا الشَّخْصِ الَّذِي يُرِيدُونَ إِيذَاءَهُ، وَمِنَ الأَفْعَالِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي يُزَاوِلُونَهَا أَنَّهُمْ أَحْيَانًا يَأْخُذُونَ دَمَ الْحَيْضِ لِيَسْقُوهُ الشَّخْصَ الَّذِي يُرِيدُونَ ضَرَرَهُ وَأَحْيَانًا يَأْخُذُونَ ظُفْرَ الشَّخْصِ أَوْ بَعْضَ شَعَرِهِ لِيَكُونَ إِيذَاؤُهُ أَشَدَّ.
وَأَحْيَانًا يَأْخُذُونَ مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ لِذَلِكَ. وَأَحْيَانًا يَسْتَعِينُونَ بِالأَرْوَاحِ الأَرْضِيَّةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأَحْيَانًا يَسْتَنْجِدُونَ بِالْكَوَاكِبِ، لأِنَّهَا عَلَى زَعْمِهِمْ لَهَا أَرْوَاحٌ تُسَاعِدُهُمْ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ وَكَذَبُوا، ثُمَّ هُمْ أَحْيَانًا يَخْتَارُونَ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِعَمَلِ السِّحْرِ لأِنَّ هَذِهِ الأَوْقَاتِ اللَّهُ جَعَلَ لَهَا خَصَائِصَ لِعَمَلِ الْخَيْرِ وَلِعَمَلِ الشَّرِّ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ سِحْرُ التَّسْلِيطِ، يُسَلَّطُ عَلَى الشَّخْصِ جِنِّيٌّ يُمْرِضُهُ وَأَحْيَانًا هَذَا الْجِنِّيُّ يَقْتُلُهُ.
وَمِمَّا يَنْفَعُ لِلتَّحَصُّنِ مِنَ السِّحْرِ أَنْ يُدَاوِمَ الشَّخْصُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْمُعَوِّذَاتِ، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَسُورَةِ الإِخْلاصِ ثَلاثًا ثَلاثًا.
وَمِمَّا يَنْفَعُ لِلتَّحَصُّنِ مِنَ السِّحْرِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّإِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَتْنِي الْيَهُودُ حِمَارًا ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هُنَّ قَالَ: "أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَىْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلا فَاجِرٌ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ" يَعْنِي كَعْبُ الأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الْيَهُودَ مِنْ أَسْحَرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اسْتِعْمَالًا لِلسِّحْرِ فَلَوْلا أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا الذِّكْرَ لضَرُّوهُ كَثِيرًا. وَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ فِي خِلافِةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ عِنْدَهُ كُتُبٌ مِنْ أَبِيهِ خَتَمَهَا إِلاَّ وَاحِدًا مِنْهَا وَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ فِي هَذَا، وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، قَالَ: وَأَخَذَ عَلَيَّ الْعَهْدَ بِحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ لا أَفُضَّ وَاحِدًا مِنْهَا، فَلَمَّا ظَهَرَ الإِسْلامُ فَتَحْتُهَا فَإِذَا فِيهَا نَعْتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْشِيرُ الأَنْبِيَاءِ بِهِ، عِنْدَهَا أَسْلَمَ كَعْبٌ. فَهَذَا الذِّكْرُ يَنْفَعُ لِلتَّحَصُّنِ مِنَ السِّحْرِ وَلِفَكِّ السِّحْرِ حَتَّى لَوْ كُتِبَ فِي وَرَقَةٍ وَعُلِّقَ عَلَى الصَّدْرِ.
وَمِمَّا يَنْفَعُ لِفَكِّ السِّحْرِ وَرَقُ السِّدْرِ يُؤْتَى بِسَبْعِ وَرَقَاتٍ خُضْرٍ صِحَاحٍ وَتُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ دَقًّا جَيِّدًا ثُمَّ تُوضَعُ فِي مَاءٍ ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ وَالْمُعَوِّذَاتُ ثَلاثًا ثَلاثًا أَوْ مَرَّةً مَرَّةً أَوْ يُقْرَأُ عَلَى الْوَرَقِ بَعْدَ دَقِّهِ وَقَبْلَ وَضْعِهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ يَشْرَبُ الْمُصَابُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ ثَلاثَ جَرَعَاتٍ وَيَغْتَسِلُ بِالْبَاقِي.
وَمِمَّا يَنْفَعُ لِذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يُؤْتَى بِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ حَبَّةَ فُلْفُلٍ أَسْوَدَ وَيُقْرَأَ عَلَى كُلِّ حَبَّةٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ سُورَةَ الإِخْلاصِ ثُمَّ يُبَخَّرُ الْمُصَابُ بِهَا.
وَمِمَّا يَنْفَعُ لِفَكِّ السِّحْرِ بِإِذْنِ اللَّهِ قِرَاءَةُ الآيَةِ {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [سُورَةَ يُونُس / 81] خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً.
وَكَذَا الْفَاتِحَةُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَسُورَةُ الإِخْلاصِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، وَسُورَةُ الْفَلَقِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، وَسُورَةُ النَّاسِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً تُقْرَأُ عَلَى مَاءٍ وَيَشْرَبُ مِنْهَا الْمَسْحُورُ.)
https://www.islam.ms/ar/?p=979