تفسير سورة الإنسان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وَيُقَدَّرُ مُتَعَلَّقُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِعْلا أَوِ اسْمًا فَالْفِعْلُ كَأَبْدَأُ وَالاسْمُ كَابْتِدَائِي. وَكَلِمَةُ "اللَّه" عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
الرَّحْمٰنُ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ شَمِلَتْ رَحْمَتُهُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ فِي الآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/ 156]، وَالرَّحِيمُ هُوَ الَّذِي يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/ 43]، وَالرَّحْمٰنُ أَبْلَغُ مِنَ الرَّحِيمِ لأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْنَى.
سورة الإنسان وتُسمى سورة الدهر، وهي مكية وقيل مدنية
وقيل فيها مكي ومدني، وهي إحدى وثلاثون ءاية
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾ أي قد أتى ﴿على الإنسانِ حينٌ من الدهر﴾ قيل: الإنسان هنا هو ءادم عليه السلام، وقيل: جميع الناس، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقي فيها إلى أن نُفخ فيه الروح، وقيل: الإنسان هنا هو ابن ءادم، والحين الذي مر عليه إما حين عدمه وإما حين كونه نطفة وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه وسُمّي إنسانًا باعتبار ما صار إليه ﴿لم يكُنْ شيئًا مذكورًا﴾ أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح.
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا (2)﴾ أي بني ءادم ﴿مِن نُطفة﴾ أي من مني الرجل ومني المرأة ﴿أمْشاجٍ﴾ أي أخلاط وهو وصف للنطفة والمراد ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد بمشيئة الله ﴿نبتليهِ﴾ أي نختبره بالتكليف في الدنيا ﴿فجَعلناهُ سميعًا بصيرًا﴾ أي ذا سمع يسمع به وبصر يبصر به إنعامًا من الله على عباده بذلك.
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾ أي بيَّنا له وعرَّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ﴿إمَّا شاكرًا﴾ أي مؤمنًا ﴿وإمَّا كَفُورًا﴾ أي كافرًا. ولما كان الشكر قلَّ من يتصف به قال "شاكرًا"، ولما كان الكفر كثُر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر جاء كفورًا بصيغة المبالغة. وأتبَعَ ذكرَ الفريقين الوعيدَ والوعدَ فقال عزَّ وجلَّ:
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلًا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا (4)﴾ أي هيأنا لمن أعرض عن الإيمان بالله أو برسوله ويدخل في ذلك من سب الله أو النبي أو القرءان ونحو ذلك مما فيه استهزاء بالله والرسول والشريعة ﴿سلاسِلًا﴾ جمع سلسلة، تكون في أعناقهم يسحبون بها في النار، ﴿وأغلالًا﴾ جمع غُل أي تشد بالأغلال فيها أيديهم إلى أعناقهم، ﴿وسعيرًا﴾ أي نارًا مسعرة يعذبون بها. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة: "سلاسل" بغير تنوين.
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)﴾ أي المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم بأداء ما فرض واجتناب ما نهى عنه ﴿يشربون من كأس﴾ أي إناء فيه شراب ﴿كان مزاجها﴾ أي كان مزاج ما فيها من الشراب ﴿كافورًا﴾ يعني في طيب رائحتها كالكافور، وقيل: إن الكافور اسمُ عين ماء في الجنة يقال له عين الكافور أي يمازجه ماء هذه العين التي تسمى كافورًا.
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)﴾ أي كان مزاج الكأس التي يشرب بها هؤلاء الأبرار كالكافور في طيب رائحته من عين ﴿يشربُ بها﴾ أي يشربها، وقيل يشرب منها ﴿عبادُ الله﴾ المراد بعباد الله هنا المؤمنون لأن الكفار لا يتنعمون في الآخرة أبدًا ﴿يُفجرونها﴾ أي يُجرون تلك العين التي يشربون بها كيف شاءوا وحيث شاءوا من منازلهم وقصورهم ﴿تفجيرًا﴾ أي سهلًا لا يمتنع عليهم.
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)﴾ أي لا يُخلفون إذا نذروا، وقيل: كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب، والمعنى يوفون بما فرض الله عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة وغير ذلك من الواجبات ﴿ويخافون﴾ أي يحذرون ﴿يومًا﴾ أي يوم القيامة ﴿كانَ شرُّهُ مُستطيرًا﴾ أي منتشرًا فاشيًا ممتدًّا والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته.
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)﴾ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فهم مع ذلك يُغيثون الملهوف. وقد وصف الله الأبرار بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام ويواسون به أهل الحاجة، وقيل "على حبه" أي حب الله ابتغاء أي مرضاة الله ﴿مسكينًا﴾ وهو الذي لا مال له يكفيه لسد حاجاته ﴿ويتيمًا﴾ وهو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ ولا شيء له ﴿وأسيرًا﴾ وهو المحبوس من الكفار. أخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله: "وأسيرًا" قال: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأسِرُ أهل الإسلام ولكنها نزلت في أُسارى أهل الشرك كانوا يأسرونهم في العذاب، فنزلت فيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالصلاح إليهم. وقال ابن الجوزي: "فأما إطعامه ففيه ثواب بالإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام: "في كل كَبِدٍ رطبةٍ أجرٌ" والآية محمولة على التطوع بالإطعام" اهـ. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المظالم: باب الآبار على الطرق، وكتاب الأدب: باب رحمة الناس والبهائم، والمساقاة: باب فضل سقي الماء، ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها.
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9)﴾ أي ابتغاء مرضاته ﴿لا نُريدُ منكم جزاءً﴾ أي مكافأة ﴿ولا شُكورًا﴾ أي ولا أن تثنوا علينا بذلك، قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم بعلمه الأزلي فأثنى به عليهم، وقيل قالوا ذلك منعًا للمحتاجين من المكافأة، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك لأن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله تعالى لا يراد به غيره فهذا هو الإخلاص، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما الله تعالى لأن فيهما رياء فنفَوا ذلك عنهم بقولهم: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)﴾ أي نطعمكم رجاء منا أن يؤمننا ربنا من عقوبته ﴿يومًا﴾ أي في يوم شديد هوله عظيم أمره ﴿عبوسًا﴾ أي تَعبِس فيه الوجوه من شدة مكارهه ﴿قمطريرًا﴾ أي شديدًا أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء.
﴿فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)﴾ أي دفع عنهم ﴿شرَّ ذلكَ اليوم﴾ أي بأسه وشدته وعذابه ﴿ولقَّاهم﴾ أي أعطاهم ﴿نضرةً﴾ أي حُسنًا في وجوههم ﴿وسرورًا﴾ أي فرحًا في قلوبهم.
﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)﴾ أي وأثابهم الله بما صبروا في الدنيا على طاعته والعمل بما يرضيه ﴿جنةً﴾ أي أُدخلوا الجنة ﴿وحريرًا﴾ أي أُلبسوا الحرير.
﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا (13)﴾ أي جلوسًا متمكنين، وقيل الاتكاء الاضطجاع ﴿فيها﴾ أي في الجنة ﴿على الأرائكِ﴾ أي على السُّرُرِ في الحِجال وهي بيوت تزين بالثياب والأسرة والستور ﴿لا يرون فيها﴾ أي لا يجدون وهم في الجنة ﴿شمسًا﴾ أي حر شمس ﴿ولا زمهريرًا﴾ أي ولا شدة برد
﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)﴾ أي ظلال الأشجار في الجنة قريبة من المؤمنين الأبرار مُطلة عليهم زيادة في نعيمهم وإن كان لا شمس ولا قمر في الجنة ﴿وذُللت﴾ أي سخرت لهم ﴿قطوفها﴾ أي ثمارها ﴿تذليلًا﴾ أي تسخيرًا، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم شوك ولا بُعْدٌ، إن قام أحد ارتفعت له وإن جلس تدلّت عليه وإن اضطجع دنت منه فأكل منها.
﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ (15)﴾ أي يدور على هؤلاء الأبرار الخدمُ ﴿بآنيةٍ﴾ من الأواني التي يشربون فيها شرابهم وهي ﴿من فضةٍ وأكوابٍ﴾ أي الكيزان العظام التي لا ءاذان لها ولا عُرًى ﴿قَوَارِيرَاْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)﴾ أي في صفاء القوارير وبياض الفضة، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة ﴿قدَّروها﴾ أي الطائفون ﴿تقديرًا﴾ على قدر مراد الشاربين من غير زيادة ولا نقص.
﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17)﴾ أي الأبرار ﴿كأسًا﴾ أي خمرًا ولكنه ليس كخمر الدنيا ﴿كان مزاجها زنجبيلًا﴾ أي أن الكأس تمزج بالزنجبيل، وكانت العرب تستلذ من الشراب الذي يُمزج بالزنجبيل لطيب رائحته، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.
﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)﴾ أي في الجنة ﴿تُسمّى سلسبيلًا﴾ أي سهلة المساغ في الحلق وليس كزنجبيل الدنيا.
﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا (19)﴾ أي يدور على المؤمنين الأبرار ﴿ولدانٌ﴾ أي غلمان يخلقهم الله تعالى لخدمة أهل الجنة ﴿مُخَلَّدونَ﴾ أي لا يموتون ﴿إذا رأيتهم﴾ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الخطاب لكل مؤمن يدخل الجنة، والمعنى إذا رأيتَ هؤلاء الولدان ﴿حَسِبتهم لؤلؤًا منثورًا﴾ أي لحسنهم ونقاء بياض وجوههم وكثرتهم وانبثاثهم في مجالسهم، واللؤلؤ إذا نُثر على بساط كان أزينَ في النظر من المنظوم.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)﴾ أي إذا رأيتَ ببصرك ونظرتَ به ﴿ثَمَّ﴾ أي الجنة ﴿رأيتَ نعيمًا ومُلكًا كبيرًا﴾ أي واسعًا، فقد ثبت في صحيح البخاري أن ءاخرَ أهل النار خروجًا منها وءاخرَ أهل الجنة دخولًا إليها له مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار.
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد على حصير من جريد وقد أثَّر في جنبه، فبكى عمر، فقال له: "ما يبكيك" ؟ قال: ذكرت كسرى ومُلكه، وهرمز ومُلكه، وصاحبَ الحبشة وملكه، وأنت يا رسول الله صلى الله عليك وسلم على حصير من جريد ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن لهم الدنيا ولنا الآخرة"، فأنزل الله: ﴿وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيت نعيمًا ومُلكًا كبيرًا﴾.
﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)﴾ أي فوقهم ﴿ثيابُ سُندس﴾ أي الثياب الرقيقة من الديباج وهو الحرير ﴿خُضرٌ﴾ جمع أخضر ﴿وإستبرق﴾ وهو ما غَلُظَ من الديباج ﴿وحُلُّوا﴾ أي أهل الجنة ﴿أساور﴾ جمع أسورة ﴿من فضة وسقاهم ربُّهم﴾ أضاف الله السقيا إليه للتشريف ﴿شرابًا طهورًا﴾ طهور صفة مبالغة في الطهارة، ومن طُهْرِه أنه لا يصير بولًا نجسًا ولكنه يصير رَشْحًا يخرج من أبدانهم كرشح المسك.
وقرأ أهل المدينة وحمزة: "عَاليْهِم" بإسكان الياء وكسر الهاء، وقرأ الباقون بفتح الياء، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: "خُضرٌ" بالرفع "وإستبرقٍ" بالخفض، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: "خضرٍ" بالخفض "وإستبرقٌ" بالرفع، وقرأ نافع، وحفص عن عاصم: "خضرٌ وإستبرقٌ" كلاهما بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي: "خضرٍ وإستبرقٍ" كلاهما بالخفض.
﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)﴾ أي النعيم ﴿كان لكم جزاء﴾ أي ثوابًا على ما كنتم في الدنيا تعملون من الصالحات ﴿وكان سعيكم﴾ أي عملكم ﴿مشكورًا﴾ أي مقبولًا مُثابًا.
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)﴾ أي يا محمد هذا ﴿القرءان﴾ ما افتريتَه ولا جئتَ به من عندك ولا من تلقاء نفسك كما يدعيه المشركون ﴿تنزيلًا﴾ أي نزل ءاية بعد ءاية ولم ينزل على النبي جملة واحدة وإنما أنزل عليه متفرقًا. ثم أمره الله بالصبر فقال:
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)﴾ أي لقضاء ربك وتبليغ رسالته ﴿ولا تُطع منهم﴾ أي من المشركين ﴿ءاثمًا﴾ أي مرتكب الإثم الداعي لك إليه ﴿أو كفورًا﴾ أي الغالي في الكفر الداعي إليه، والكفور وإن كان ءاثمًا فإن فيه مبالغةً في الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يُتصور في حقه أن يطيع أحدًا منهم لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن مثل ذلك.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه بلغه أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله: ﴿ولا تطع منهم ءاثمًا أو كفورًا﴾، قال ابن الجوزي: "زعم بعضهم أنها منسوخة بآية السيف وقد تكلمنا على نظائرها وبيّنا عدم النسخ" اهـ.
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)﴾ أي صلّ لربك ﴿بُكرة﴾ يعني صلاة الصبح ﴿وأصيلًا﴾ يعني صلاة الظهر والعصر.
﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)﴾ يعني صلاة المغرب والعشاء ﴿وسبحه ليلًا طويلًا﴾ يعني صلاة التطوع بعد الصلاة المفروضة وهو التهجد بالليل.
﴿إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾ يعني الكفار ﴿يحبون العاجلة﴾ أي يؤثرون الدنيا على الآخرة ﴿ويذرون﴾ أي ويَدَعُون ﴿وراءهم﴾ أي أمامهم وهو ما يستقبلون من الزمان ﴿يومًا ثقيلًا﴾ أي يومًا شديدًا وهو يوم القيامة، والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به ولا يعملون له، واستعير الثقيل لليوم لشدته وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب صاحبه.
﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)﴾ أي من طين ﴿وشددنا﴾ أي قوينا وأحكمنا وأحسنَّا ﴿أسرهم﴾ أي خَلْقَهم، وقيل شددنا مفاصلهم وأوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب، وقيل الأسر مجرى البول والغائط وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا، والكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية، أي سوَّيتُ خلقك أيها الإنسان وأحكمتُه ثم أنت تكفر بي ﴿وإذا شئنا﴾ أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ﴿بدَّلنا أمثالهم تبديلًا﴾ ممن يطيع.
﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)﴾ أي السورةَ أو ءايات القرءان أو جملةَ الشريعة ليس على جهة التخيير بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله كما قال أبو حيان في تفسيره ﴿تذكرة﴾ أي موعظة ﴿فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا﴾ أي طريقًا موصلًا إلى طاعته وطلب مرضاته.
﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)﴾ أي الطاعة والاستقامة واتخاذ السبيل إلى الله ﴿إلا أن يشاءَ اللهُ﴾ أي لا يحصل ذلك إلا بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، وفي هذه الآية حجة لأهل السنة حيث قالوا إن جميع ما يصدر من العبد من خير أو شر، طاعة أو معصية، إيمان أو كفر بخلق الله ومشيئته ﴿إنَّ الله كانَ عليمًا﴾ أي عالما بأعمالكم وما يصدر منكم قبل خلقكم ﴿حكيمًا﴾ أي في أمره ونهيه لكم وفي فعله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: "وما يشاؤون" بالياء.
﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)﴾ وهم المؤمنون يُدخلهم الجنة ﴿والظالمين﴾ أي الكافرين إما بالإعراض عن الإيمان بالله أو الرسول أو بشتمهما ﴿أعدّ لهم﴾ أي في الآخرة ﴿عذابًا أليمًا﴾ أي عذابًا مؤلما موجِعًا وهو عذاب جهنم. وفي هذه الآية رد على الذين يقولون إن عذاب جهنم معنويٌّ لا حسي أي يزعمون أن ءايات الوعيد للتخويف فقط لا حقيقة لها في الآخرة وهذا إلحاد وكفر بالقرءان.
https://www.islam.ms/ar/?p=367