تفسير سورة البقرة آية 25
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
من تفسير الإمام النسفي (ت 710 هـ) مدارك التنزيل وحقائق التأويل:
فلَمّا ذَكَر الكُفّارَ وأَعمَالَهم وأَوْعَدَهُم بالعِقَابِ قَفّاهُ بذِكْر المؤمنِينَ وأعمَالِهم وتَبشِيرِهِم
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المأمُورُ بقَولِه " وبَشّر " الرّسولُ علَيهِ السّلامُ أو كُلُّ أحَدٍ ، وهَذا أَحسَنُ لأنّهُ يُؤذِنُ بأنّ الأَمْرَ لِعِظَمِهِ وفَخَامَةِ شَأنِه مَحقُوقٌ بأنْ يُبَشِّرَ بهِ كُلُّ مَن قَدَر على البِشَارَةِ بهِ.
والبِشَارَةُ الإخبَارُ بِما يُظهِرُ سُرُورَ المخبَر ِبهِ
وأمّا فبَشّرهُم بعَذَابٍ أَلِيم" فمِنَ العَكْسِ في الكَلامِ الذي يُقصَدُ بهِ الاستِهزَاءُ الزّائدُ في غَيظِ المستَهزَإ بهِ كمَا يَقُولُ الرّجُلُ لِعَدُوّه: أَبْشِرْ بقَتْلِ ذُرّيَّتِكَ ونَهبِ مَالِكَ.
والصَّالِحَةُ نَحوُ الحَسَنَةِ في جَرْيِها مَجرَى الاسم.
والصّالِحَاتُ كُلُّ مَا اسْتَقَامَ مِنَ الأَعمَالِ بدَلِيلِ العَقْلِ والكِتَابِ والسُّنّةِ .
ولا نَجعَلُ لِصَاحِبِ الكَبِيرَةِ البِشَارَة المطلَقةَ بل نُثبِتُ بِشَارَةً مُقَيَّدَةً بمشِيئَةِ اللهِ إنْ شَاءَ غَفَر لهُ وإنْ شَاءَ عَذّبَهُ بقَدْرِ ذُنُوبِه ثم يُدخِلُهُ الجَنّةَ
(فائدةٌ: إطْلاقُ الإيمانِ على الأعمَالِ الصّالحَةِ شَيءٌ ثَابِتٌ ليسَ محَلّا للتّرَدُّدِ والاختِلافِ ،الإيمانُ يَزِيدُ ويَنقُصُ بالنّسبَةِ للوَصفِ أمّا بالنّسبَةِ للأصلِ الإيمانُ لا يَزِيدُ ولا يَنقُصُ لأنّهُ إنْ نَقَصَ عن حقِيقَةِ مُسَمّى الإيمانِ فهوَ شَكٌّ وارتيَابٌ ولا يَكُونُ إيمانًا وإنْ زادَ فَإنّما زادَ في الوَصْفِ، الجُمهُورُ يُطلِقُونَ الإيمانُ يَزِيدُ ويَنقُصُ ومُرَادُهُم هَذا.)
{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} أيْ بأنّ لهم جَنّاتٍ.
والجَنَّةُ البُستَانُ مِنَ النَّخْلِ والشَّجَرِ الْمُتَكَاثِف ، والتّركِيبُ دَائِرٌ على مَعنى السَّتْر ومنهُ الجِنُّ والجُنُونُ والجَنِينُ والجُنَّةُ (والجُنَّةُ بالضّمّ مَا اسْتَتَرْتَ بهِ مِنْ سِلَاحٍ والجُنَّةُ السُّتْرَةُ) والجَانُّ والجَنَانُ (الجَنَانُ العَقلُ) ، وَسُمِّيَتْ دَارُ الثّوابِ جَنَّةً لِمَا فِيهَا مِنَ الجِنَان (لأنّ فِيهَا بَسَاتِين).
والجَنّةُ مَخلُوقَةٌ لقَولِه تعالى : { وَقُلْنَا يَا ءادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }
ومَعنى جَمعِ الجَنّةِ وتَنكيرِها أنّ الجَنّةَ اسمٌ لدَارِ الثّوابِ كُلِّهَا وهيَ مُشتَمِلَةٌ على جِنَانٍ كَثِيرَةٍ مُرَتَّبَةٍ مَراتِبَ بحَسَبِ أَعمَالِ العَامِلِينَ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنهُم جَنّاتٌ مِن تِلكَ الجِنَانِ.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} والمرادُ مِن تَحتِ أَشْجَارِها كَمَا تَرَى الأشجَارَ النّابتَةَ على شَواطِىء الأنهارِ الجَاريَة.
وأنهَارُ الجَنّةِ تَجرِي في غَيرِ أُخْدُود. (والأُخْدُودُ بالضَّمّ شَقٌّ مُستَطِيلٌ في الأرض)
وأَنْزَهُ البَسَاتِينِ مَا كَانَت أَشجَارُها مُظِلَّةً والأنهارُ في خِلَالها مُطّرِدَةً والجَرْيُ الاطّرَادُ. (والأنهارُ تَطَّرِدُ أي تجري)
والنَّهْرُ الْمَجرَى الوَاسِعُ فَوقَ الجَدْوَلِ ودُونَ البَحْرِ يُقَالُ للنّيلِ : نَهرُ مِصرَ ، واللُّغَةُ العَالِيَةُ (أي الأفصَحُ) نَهَرٌ ومَدَارُ التّركِيبِ على السَّعَةِ ، وإسْنَادُ الجَرْيِ إلى الأنهارِ مجَازيٌّ. (لأنّ النَّهْرَ هوَ مَجرَى الماءِ مَكَانُ جَرْيِ الماء)
وإنّما عرّفَ الأنهارَ لأنّهُ يَحتَمِلُ أنْ يُرَادَ بها أنهَارُها فعُوِّضَ التَّعرِيفُ باللّام مِن تَعرِيفِ الإضَافَةِ كقَولِه تَعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا }، أو يُشَارُ باللّام إلى الأنهارِ المذكُورَةِ في قَولِه تَعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ }، الآيةَ والماءُ الجَارِي مِنَ النِّعْمَةِ العُظمَى واللَّذَّةِ الكُبرَى ولِذَا قَرَنَ اللهُ تَعالى الجَنّاتِ بذِكْرِ الأنهارِ الجَارِيَةِ وقَدَّمَه على سَائِرِ نُعُوتِها.
{كُلَّمَا رُزِقُوا} صِفةٌ ثَانيةٌ لـ " جنّات " أو جُملَةٌ مُستَأنفَةٌ لأنّه لما قِيلَ إنّ لهم جَنّاتٍ لم يَخْلُ خَلَدُ السّامِع أنْ يقَعَ فيهِ أثمْارُ تِلكَ الجَنّاتِ أَشْبَاهُ ثِمارِ جَنّاتِ الدُّنْيا أمْ أَجْنَاسٌ أُخَرُ لا تُشَابِهُ هَذه الأجنَاسَ فقِيلَ : إنّ ثِمارَها أشبَاهُ ثِمارِ جَنّاتِ الدُّنيا أيْ أَجنَاسِها وإنْ تَفَاوَتَت إلى غَايَةٍ لا يَعلَمُها إلا الله.
(أيْ مِن حَيثُ حُسنُ المنظَرِ وحَلاوَةُ الطَّعْمِ وحُسنُ الرّائحَةِ في ذلكَ لا مُنَاسَبَةَ بينَ هَذه وهَذه فَرقٌ بَعِيدٌ لَكنّ الجِنْسَ واحِدٌ، الأجْنَاسُ مُتّحِدَةٌ)
{مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي} أي كُلَّما رُزِقُوا مِنَ الجَنّاتِ ، مِن أيِّ ثَمرَةٍ كَانَت مِن تُفّاحِها أو رُمّانِها أو غَيرِ ذلكَ رِزْقًا قَالُوا ذلكَ.
فـ " مِنِ " الأُولى والثّانيَةُ كِلتَاهُما لابتِدَاءِ الغَايَةِ لأنّ الرِّزْقَ قَد ابتُدئَ مِنَ الجَنّاتِ والرّزْقُ مِنَ الجَنّاتِ قَدِ ابتُدِئَ مِن ثَمَرَةٍ ، ونَظِيرُه أنْ تَقُولَ : رَزَقني فُلانٌ فيُقَالَ لكَ : مِن أَينَ ؟ فتَقُولُ : مِن بُستَانِه. فيُقَالَ : مِن أيّ ثَمرَةٍ رَزَقَكَ مِن بُستَانِه ؟ فتَقُولَ : مِنَ الرُّمّانِ.
ولَيسَ المرادُ مِنَ الثّمَرَةِ التُّفَاحَةَ الواحِدَةَ أو الرُّمّانَةَ الفَذَّةَ (أي الواحِدَةَ) وإنّما المرادُ نَوعٌ مِن أَنوَاع الثِّمَار.
{رُزِقْنَا} أيْ رُزِقنَاهُ
{مِن قَبْلِ} أيْ مِن قَبلِ هَذَا ، والمعنى هَذا مِثلُ الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وشِبْهُه بدَليلِ قَولِه
{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَـابِهًا} وهَذا كقَولِكَ " أبو يوسُفَ أبو حَنِيفَة " تُرِيدُ أنّهُ لاستِحكَامِ الشَّبَهِ كَأَنَّ ذَاتَه ذَاتُه.
والضّميرُ في بهِ يَرجِعُ إلى الْمَرزُوقِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ جَمِيعًا لأنّ قَولَهُ هَذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبلُ انْطَوَى تَحتَهُ ذِكْرُ مَا رُزِقُوهُ في الدّارَينِ ، وإنّما كانَ ثِمارُ الجنّةِ مِثلُ ثِمارِ الدُّنيا ولم تَكُنْ أَجْنَاسًا أُخَرَ لأنّ الإنسَانَ بالمألُوفِ آنَسُ وإلى المعهُودِ أَمْيَلُ ، وإذَا رَأَى مَا لَم يَألَفْه نَفَرَ عَنهُ طَبعُه وعَافَتْهُ نَفسُه ، ولأنّهُ إذَا شَاهَدَ مَا سَلَفَ لهُ بهِ عَهدٌ ورَأَى فيهِ مَزِيَّةً ظَاهِرَة وتَفاوُتًا بَيّنًا كانَ استِعجَابُه بهِ أَكثَرَ واسْتِغرَابُه أَوفَرَ.
وتَكرِيرُهم هَذا القَولَ عِندَ كُلِّ ثَمرَةٍ يُرزَقُونَها دَليلٌ على تنَاهِي الأَمرِ وتَمادِي الحالِ في ظُهُورِ الْمَزِيّةِ (مِن شِدَّةِ مَا يَرَونَ مِنَ الفَرقِ العَظِيمِ بَينَ ثِمارِ الدُّنيَا وثِمارِ تِلكَ الدّارِ كُلَّمَا رَأَوا يَقُولُونَ هَذا الكَلامَ) ، وعَلى أنّ ذلكَ التّفَاوُتَ العَظِيمَ هوَ الذي يَسْتَملِيْ تَعَجُّبَهُم في كُلِّ أَوَانٍ، أو إلى الرِّزْقِ كمَا أنّ هَذا إشَارَةٌ إلَيهِ (أي إلى الرِّزْق) ، والمعنى أنّ مَا يُرزَقُونَهُ مِن ثَمراتِ الجَنّةِ يَأتِيْهِم مُتَجَانِسًا في نَفْسِهِ كَمَا يُحكَى عن الحَسَنِ : يُؤتَى أحَدُهُم بالصَّحْفَةِ فيَأكُلُ مِنهَا ثم يُؤتَى بالأُخْرَى فيَقُولُ : هَذا الذي أُتِينَا بهِ مِن قَبلُ فيَقُولُ الْمَلَكُ : كُلْ ، فاللَّونُ واحِدٌ والطَّعْمُ مُختَلِفٌ.
وعَنهُ علَيهِ السَّلامُ : "والذي نَفسُ محَمَّدٍ بيَدِه إنّ الرّجُلَ مِن أَهلِ الجنّةِ لَيَتنَاوَلُ الثّمرَةَ لِيَأكُلَها فمَا هيَ بوَاصِلَةٍ إلى فِيْهِ حَتى يُبَدّلَها اللهُ مَكَانَها مِثلَها فإذَا أَبْصَرُوهَا والهيئَةُ هَيئَةُ الأولى قَالُوا ذلكَ" وقَولُه : وأُتُوا بهِ مُتَشَابهًا جُملَةٌ مُعتَرِضَةٌ للتّقرِير كقَولِكَ " فُلانٌ أَحْسَنَ بفُلانٍ ونِعْمَ مَا فَعَلَ " ورَأَى مِنَ الرَّأْيِ كَذا وكَانَ صَوَابًا ، ومِنهُ { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }
{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} مِن مَسَاوئ الأخلاق ، لا طَمِحَاتٍ ولا مَرِحَاتٍ ، أو مما يَختَصُّ بالنّسَاءِ بالحَيضِ والاستِحَاضَةِ ومَا لا يَختَصُّ بِهنّ مِنَ البَولِ والغَائطِ وسَائرِ الأقذَارِ والأَدْنَاسِ. (أيْ أنّ أولئكَ جُعِلنَ مُطَهَّرَاتٍ مِن ذَلكَ وكذَلكَ مما لا يَختَصُّ بهِنَّ مِنَ البَولِ والغَائطِ وسَائِر الأَقْذَارِ والأَدْنَاسِ اللهُ طَهَّرَهُم مِنْ هَذه الأشيَاءِ كُلِّهَا)
ولم يَقُل طَاهِرَةٌ لأنّ { مُّطَهَّرَةٌ } أبْلَغُ لأنّها تَكُونُ للتّكثِيرِ ، وفيها إشعَارٌ بأنّ مُطَهِّرًا طَهّرَهُنَّ ومَا ذلكَ إلا اللهُ عَزَّ وجَلّ.
{ وَهُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ (25)} الخُلْدُ والخُلُودُ البَقَاءُ الدّائمُ الذي لا يَنقَطِعُ ، وفيهِ بُطلَانُ قَولِ الجَهمِيَّةِ فَإنّهم يَقُولُونَ بفَناءِ الجنّةِ وأَهلِها
قُلنَا : الأوّلُ في حَقّه هوَ الذي لا ابتدَاءَ لِوُجُودِه ، والآخِرُ هوَ الذي لا انتِهَاءَ لهُ ، وفي حَقّنَا (أيْ بالنّسبَةِ للمَخلُوقِينَ) الأوّلُ هوَ الفَردُ السَّابِقُ والآخِرُ هوَ الفَردُ اللّاحِقُ ، واتّصَافُه بِهما لِبَيانِ صِفَةِ الكَمَالِ ونَفْيِ النَّقِيصَةِ والزّوَالِ ، وذَا في تَنزِيهِه عن احتِمَالِ الحُدُوثِ والفَناءِ (أي يكفي في ذلك أن غيره يجوز عليه الفناء باعتبار ذاته أما هو أي الله لا يجوز عليه الفناء هذا يكفي في انفراد الله بذلك) ، وأنّى يَقَعُ التّشَابُهُ في البَقاءِ وهوَ تَعَالى بَاقٍ لِذَاتِه وبقَاؤه واجِبُ الوُجُودِ وبَقَاءُ الخَلْقِ بهِ (أي بالله) وهوَ جَائِزُ الوُجُود (بقاء الجنة والنار جائز الوجود ليس واجب الوجود أما بقاء الله واجبُ الوجود).
https://www.islam.ms/ar/?p=451