باب الاستفهام من كتاب السيوطي الاتقان في علوم القرءان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد.
قال السيوطي في كتاب الإتقان في علوم القرءان :
من أقسامِ الإنشاءِ الاستفهامُ وهو طَلَبُ الفَهْمِ وهو بمعنى الاستخبارِ وقيل الاستخبارُ ما سَبَقَ أَوَّلًا ولم يُفْهَمْ حَقَّ الفَهْمِ فإذا سَأَلتَ عنه ثانيا كان استفهامًا حكاه ابن فارس في (فقه اللغة).
وأدواته : الهمزة وهل وما ومن وأي وكم وكيف وأين وأنى ومتى وأيان ومرت في الأدوات وقال ابن مالك في المصباح وما عدا الهمزةَ نائبٌ عنها.
ولكونه طلبَ ارتسامِ صورةِ ما في الخارجِ في الذهنِ لَزِمَ ألا يكونَ حقيقةً إلا إذا صَدَرَ من شاكٍّ مُصدِّقٍ بإمكانِ الإعلامِ، فإن غيرَ الشاكِّ إذا اسْتَفْهَمَ يلزَمُ منه تحصيلُ الحاصلِ وإذا لم يصدقْ بإمكانِ الإعلامِ انتفتْ عنه فائدةُ الاستفهام.
قال بعض الأئمة وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام فإنما يقع في خطاب الله على معنى أن المخاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذلكَ الإثباتِ أو النَّفْيِ حاصلٌ.
وقد تُسْتَعْمَلُ صيغة الاستفهام في غيره مجازا وألَّفَ في ذلك العلامة شَمْسُ الدين بنُ الصائغ كتابا سماه (روض الأفهام في أقسام الاستفهام) قال فيه قد توسَّعَتِ العربُ فأخرجت الاستفهامَ عن حقيقته لمعانٍ وأَشْرَبَتْهُ تلك المعاني ولا يختص التجوُّزُ في ذلك بالهمزة خلافا للصفّار. اهـ
ونذكر فيما يلي مثالا واحدا عن كل نوع من أنواع الاستفهام المجازي مما ذكره السيوطي في الإتقان مع ذكر مرجع آخر أو أكثر من كتب التفسير أو الحديث أو اللغة في تفسير الآية التي ذكرها السيوطي.
1- معنى الإنكار في قوله تعالى: ﴿ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ ﴾. قال فخر الدين الرازي في التفسير الكبير: وهذا استفهام على سبيل الإنكار يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم.
2- معنى التوبيخ في قوله تعالى: ﴿ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ ﴾ قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط: استفهام توبيخ وإنكار عليهم، كيف هم يعبدون صورًا صوّروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال ؟
3- معنى التقرير في قوله تعالى: ﴿ أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ ﴾. ذكر أبو حيان هذه الآية في شرح سورة البقرة في البحر المحيط مثالا عن استفهام التقرير وقال النسفي في مدارك التفسير وحقائق التأويل في شرح هذه الآية : استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل شرحنا لك صدرك.
4- معنى التعجب أو التعجيب في قوله تعالى: ﴿ مَا لِيَ لَآ أَرَى ٱلۡهُدۡهُدَ ﴾. ذكر في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي وفي حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك أن الاستفهام في هذه الآية للتعجب
5- معنى العتاب في قوله تعالى: ﴿ أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ ﴾. في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
6- معنى التذكير في قوله تعالى: ﴿ هَلۡ عَلِمۡتُم مَّا فَعَلۡتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرءان: استفهام بمعنى التذكير والتوبيخ
7- معنى الافتخار في قوله تعالى: ﴿ أَلَيۡسَ لِي مُلۡكُ مِصۡرَ ﴾. ذكر الرازي في تفسير سورة مريم أن هذا افتخار وكذلك ذكر الألوسي في روح المعاني في تفسير القرءان الكريم والسبع المثاني
8- معنى التفجع في قوله تعالى: ﴿ مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٍ وَلَا كَبِيرَةً ﴾. ذكر ابن فارس في الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسُنن العرب في كلامها أن اللفظ يكون استخبارا والمعنى تفجع ومثّل بهذه الآية.
9- معنى التهويل والتخويف في قوله تعالى: ﴿ ٱلۡحَآقَّةُ ١ مَا ٱلۡحَآقَّةُ ٢ ﴾. ذكره البيضاوي في تفسير سورة الحاقة.
10- معنى التسهيل والتخفيف في قوله تعالى: ﴿ وَمَاذَا عَلَيۡهِمۡ لَوۡ ءَامَنُواْ ﴾. ذكره القونوي في حاشيته على تفسير البيضاوي
11- معنى التهديد والوعيد في قوله تعالى: ﴿ أَلَمۡ نُهۡلِكِ ٱلۡأَوَّلِينَ ﴾. ذكره القونوي في حاشيته على تفسير البيضاوي
12- معنى التكثير في قوله تعالى: ﴿ وَكَم مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا ﴾. قال القرطبي في الجامع لأحكام القرءان عند هذه الآية: كم للتكثير.
13- معنى التسوية في قوله تعالى: ﴿ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ ﴾. ذكره الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
14- معنى الأمر في قوله تعالى: ﴿ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾. ذكره أبو حيان في البحر المحيط.
15- معنى التنبيه في قوله تعالى: ﴿ فَأَيۡنَ تَذۡهَبُونَ ﴾. ذكره القزويني في تلخيص المفتاح.
16- معنى الترغيب في قوله تعالى: ﴿ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٍ تُنجِيكُم ﴾. ذكره الماوردي في النكت والعيون.
17- معنى النهي في قوله تعالى: ﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ﴾. قال السيوطي في الإتقان أي لا تغتر به.
18- معنى الدعاء في قوله تعالى: ﴿ أَتُهۡلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ ﴾. ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرءان أن معناه الدعاء والطلب أي لا تهلكنا.
19- معنى الاسترشاد في قوله تعالى: ﴿ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا ﴾. قال الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا « يا رب خبرنا » مسألة استخبار منهم لله.
20- معنى التمني في قوله تعالى: ﴿ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ ﴾. قال القرطبي في تفسيره استفهام فيه معنى التمني.
21- معنى الاستبطاء في قوله تعالى: ﴿ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ ﴾. قال القونوي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن هذه الآية: متى للاستفهام ولم يمكن حمله على الحقيقة فحمل على المجاز وهو الاستبطاء ومآله الاستدعاء.
22- معنى العرض في قوله تعالى: ﴿ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ ﴾. ذكره في حاشية الدسوقي على مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.
23- معنى التحضيض في قوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمًا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ ﴾. قال القرطبي : توبيخ وفيه معنى التحضيض وقال أبو حيان في البحر المحيط: ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض.
24- معنى التجاهل في قوله تعالى: ﴿ أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ ﴾. قال أبو حيان في البحر المحيط : أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم، وهذا الإنكار هو ناشئ عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم فنطقت به ألسنتهم.
25- معنى التعظيم في قوله تعالى: ﴿ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ ﴾. قال أبو حيان في البحر المحيط : وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله، وعظم كبريائه، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ بإذن منه تعالى.
26- معنى التحقير في قوله تعالى: ﴿ أَهَٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولًا ﴾. ذكر البيضاوي في تفسيره أن الإشارة بكلمة هذا للاستحقار.
27- معنى الاكتفاء في قوله تعالى: ﴿ أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوًى لِّلۡمُتَكَبِّرِينَ ﴾. قال الطبري في تفسير هذه الآية : أليس في جهنم مأوى ومسكن لمن تكبر على الله، فامتنع من توحيده والانتهاء إلى طاعته فيما أمره ونهاه عنه.
28- معنى الاستبعاد في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكۡرَىٰ ﴾. قال أبو حيان في البحر المحيط : أي منفعة الذكرى، لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى.
29- معنى الإيناس في قوله تعالى: ﴿ وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ ﴾. ذكره النسفي في تفسيره.
30- معنى التهكم والاستهزاء في قوله تعالى: ﴿ مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ ﴾. ذكره الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن.
31- معنى التأكيد لما سبق من معنى الاستفهام في قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ ﴾. ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرءان.
32- معنى الإخبار في قوله تعالى: ﴿ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوٓاْ ﴾. ذكر فخر الدين الرازي في التفسير الكبير في تفسير هذه الآية: اللفظ استفهام ومعناه الخبر كما قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح.
ومن الأمثلة على الاستفهام المجازي قول إبراهيم لقومه « ما تعبدون » ؟ قال اللهُ تعالى فى سورة الشّعراءِ: ﴿ وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ إِبۡرَٰهِيمَ إِذۡ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا تَعۡبُدُونَ قَالُواْ نَعۡبُدُ أَصۡنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَٰكِفِينَ ﴾.
فإنَّ إبراهيمَ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ لم يَسأل قومَه ما سَألهم ليُجيبوهُ أنهم كفّارٌ يعبدونَ الأصنامَ إنما سألهم عَن ماهيّةِ مَعبوداتهم ليُظهرَ فسادَ عبادَتهم لها أي أنهُ سألهم أليسَ ما تعبدونهُ حجارةً وخشبًا ومَعادنَ قَد صَوَّرْتُمُوهَا بأيديكُم ونقَشْتُموها أنتُم وأثّرْتُم فيها فكيفَ تَعبدونها ولا يُستنكرُ مثلُ هذا الأُسلوبِ في الكلامِ عندَ أهلِ المعرفةِ فإنَّ علماءَ اللغةِ جعَلوا للاستفهامِ معانِيَ كثيرةً منهَا الإنكارُ والتقريرُ والتوبيخُ والتعجُّبُ أو التعجيبُ والعتابُ والتّهويلُ والتّخويفُ والتّهديدُ والوعيدُ والتّنبيهُ والنَّهْىُ والتّحقيرُ والاستبعادُ والتّهكّمُ والاستهزاءُ وغيرُ ذلكَ ولِهٰذا قالَ ابنُ عطيّةَ فى تَفسيرهِ عن هذه الآية (استِفهامٌ بمعنى تقريرٍ) اهـ أي إنهُ كانَ يَعْلَمُ ما يعبدونَ وإنما سألَ لتقريرِ الحُجَّةِ. وقالَ أبو حيّانَ فى البحرِ المحيطِ (استِفهامٌ بمعنى التّحقيرِ والتّقريرِ) اهـ والمرادُ بالتقريرِ عندَ أهلِ البلاغةِ هو الإثباتُ والتوكيد لا طلب الجواب وقالَ البَيضاوىُّ فى تفسيرهِ (سألهم ليُرِيَهُمْ أنَّ ما يعبدونهُ لا يستحق العبادة) اهـ وقالَ القُونوىُّ فى حاشيتهِ على تفسيرِ البَيضاوىّ (وحاصلهُ أنَّ الاستفهامَ هُنا للإنكارِ لا للاستعلامِ) اهـ وقالَ الإيجىُّ الشّافعىُّ فى تفسيرهِ المسمّى جامعَ البيانِ ما نصُّهُ (أنكرَ عليهِم عبادةَ الأصنامِ) اهـ وقالَ البَغوىُّ فى تفسيرهِ (استفهامُ توبيخٍ) اهـ وفى حاشيةِ محيى الدّينِ شيخ زادَه على تفسيرِ البيضاوىّ قالَ (استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ على تلكَ الطّريقةِ) اهـ وقالَ الرّازىُّ (فقالَ لهم ما تعبدونَ وكانَ إبراهيمُ عليهِ السّلامُ يعلمُ أنهم عبدةُ أصنامٍ ولكنّهُ سألهم ليُرِيَهُمْ أنَّ ما يعبدونَهُ ليسَ مِنِ استحقاقِ العبادةِ فى شىءٍ) اهـ وقالهُ النّسفىُّ فى تفسيرهِ المعروفِ اهـ فلا تدل هذه الآية على جواز سؤال الكافر عن دينه ليجيب بالكفر.
https://www.islam.ms/ar/?p=408