اللهُ خالقُ كُلّ شَىء: الأجسام وصفاتها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ اللهِ البَرّ الرّحيم والملائكة المقَرّبينَ على سيّدنا محمّدٍ أشرَف المرسَلين وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسَلِين وآلِ كُلّ والصّالحين وسلامُ الله علَيهم أجمعين
وبعدُ فإنّ أعظَمَ العلُوم وأنفعَها ما يعودُ إلى معرفةِ اللهِ ورسُولِه، ما يُعرَف بهِ اللهُ ورسولُه وما يُعرف به سائرُ أصولِ العقيدةِ لذَلك سمَّى أبو حنيفةَ رضي الله عنه عِلمَ التّوحيد الفِقه الأكبر، لهُ في عِلم التّوحيد خمس رسائل إحْداها الفِقه الأكبر ثم معَه كتابُ العَالم والمتعَلّم ثم كتابُ الوصيّة ثم كتاب الفِقه الأبسَط ثم رسالة أخرى تُسَمّى رسالة عثمان البَتّي، هذه الرسائلُ الخَمس هيَ مِن تآليف أبي حنيفةَ، وتَسميَتُه لكتابِه هذا الذي هو في العقيدة أي في معرفةِ الله ورسوله وما يَتبَعُ ذلكَ مِن أصُول العقيدة، الفِقه الأكبر دليلٌ ظاهرٌ على أنّ عِلمَ العقيدة أشرَف مِن عِلم الأحكام المسمّى بالفِقه.
ثم مِن أهمّ مسَائل عِلم العقيدة مسألةُ خَلق أفعالِ العباد لأنّ الناسَ فيها على طَرفَين ووسَط فالطّرَفان هالِكان والنّاجِي هو الوسَط، وبيانُ ذلك أنّ أهلَ الحقّ وهُم الصّحابةُ ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ لم يَحِيدوا عمّا كانوا يعتقدُونَه إلى غيره، أي أنّ الله تبارك وتعالى هو خالقُ كلّ شىء، هو خالقُ أعمالِ العباد حَركاتِهم وسكَناتِهم كما أنّه خالقُ أجسادِهم، لا فَرق عندَ أهلِ الحقّ بينَ أجسَادِنا وبينَ أعمالِنا مِن حيثُ إنّ كُلا خَلقٌ للهِ تعالى، أجسادُنا خَلقٌ لله وكذلكَ أعمَالُنا أي حَركاتُنا وسكَناتُنا خَلقٌ لله تعالى، نحنُ لا نَخلُق شيئًا مِن ذلك، إنما أجسَادُنا ليسَت مُكتسَبة لنا لا تَدخُل تحتَ كَسبِ العِباد، لكن أعمالنا أي حركاتُنا وسكناتُنا داخلةٌ تحتَ أكسَابِنا أي لنا فيها كَسْبٌ، أمّا مِن حيثُ الخَلقُ أي الإحداثُ مِنَ العدَم إلى الوجود فهيَ لِلّهِ تبارك وتعالى ليسَ لنَا مِن ذلكَ شىء، لَسنا مؤثّرين بإيجادها اشتراكًا مع الله ولا مستقِلّينَ بإيجادِها وتكوينِها، حركاتُنا وسكَناتُنا لسنا خالقِينَ لها استِقلالا ولَسنا خالقِينَ لها مُشَاركةً معَ الله، بل اللهُ تعالى هو المنفردُ بإيجادِ حَركاتِنا وسكَناتِنا، هذا معتقَدُ أصحَابِ رسولِ الله لم يكن بينَهُم اختِلافٌ في ذلك ثم تبِعَهُم على ذلكَ جُمهُور المنتَسِبين إلى الإسلام ولم يَشِذّ عن ذلكَ أي عن هذا المعتقدِ الذي هو اعتقادُ الصّحابةِ إلا طائفتانِ تَنتَسِبان إلى الإسلام أي تَدّعيان ادّعاءً وهم في الحقيقةِ ليسُوا مِن أهلِ الإسلام لا حَظَّ لهم في الإسلام، وإحْدَى هاتَين الفِرقتَين يُقالُ لها القدَريّة ويقالُ لها المعتزلة، والأخرى يقال لها الجَهميّة ويقال لها الجَبريّة. هاتان الفرقتان المعتزلة والجبرية هما الطرفان المخالفان لأهل الحق الذين هم الوسط، فلْيَحذر العاقل من الميل إلى إحدى هاتين الفِرقتين اللتين هما طرفان، ثمّ أهل الحقّ الذين هم الوسط لهم أدلّة قرآنية ولهم براهين عقليّة فمن أدلّتهم القرآنية قوله تعالى {هل من خالق غير الله} الله تبارك وتعالى أطلق هذه الآية إطلاقا لم يقيّدها بالأجسام، الأجرام، ولا بالأعمال فأفهمنا أنه تبارك وتعالى هو خالق الأجسام الصغيرة والكبيرة من العرش إلى الذّرة، وأنه هو خالق الحركات والسكنات والنوايا والإدراكات والعلوم كلّ ذلك الله خالقه لا خالق سواه، هكذا تُعطي هذه الآية {هل من خالق غير الله} كذلك قوله تعالى {الله خالق كلّ شىء} لأن كلمة شىء تشمل الأجرام والأجسام والحركات والسكنات والإدراكات والعلوم فإدراكات البشر وغيرهم من الخلق وعلومهم مخلوقة لله ليست مخلوقة للعباد وإن كان ظاهرا يُنسب إلى العبد يقال فلان حصّل علوما والمعنى عند أهل الحق في ذلك أنه اكتسب مَيل هذه العلوم فنالها بخلق الله لا بخلق العبد نفسِهِ.
كذلكَ الأسبابُ العاديّة عندَ أهلِ الحقّ لا تَخلُق شيئًا والأسبابُ العاديّةُ هيَ هذه الأمور التي جعَلَ اللهُ تبارك وتعالى فيها السَّببيّة بشَىءٍ منَ الأشياء، الماءُ جعلَه اللهُ سبَبا للرّيّ والخُبز جعَلَه اللهُ سببًا للشّبَع والنارُ جعَلها اللهُ تَعالى سبَبًا للإحراق والدّواءُ جعَله اللهُ سبَبا للشّفاء ولم يجعلِ الله تعالى هذه الأسبابَ خالِقةً للمُسَبَّبَاتِ التي تَحدُث بَعدَ مُباشَرتها، الرّيّ الذي يَحصُل بعدَ شُربِ الماء ليسَ الماءُ يَخلقُه كذلكَ الشّبَع الذي يَحصُل إثْرَ تَناوُل الخُبز ليسَ الخُبز يَخلقُه والشّفاء الذي يَحصُل إثْر تناول الدّواء ليس الدّواءُ يَخلقُه، فهذا الذي يكونُ مُوافقًا للقرآنِ لأنّ اللهَ تبارك وتعالى لما قال {الله خالق كلّ شىء} أفهَمَنا أنّ كلَّ هذهِ الأسباب لا تَخلُق شيئًا بل اللهُ هوَ الذي يَخلُق هذه المسبَّبات عندَ تنَاولها، ونصَبَ اللهُ تبَارك وتعالى لعِبادِه دَليلا يَدُلّ على أنّ هذه الأسبابَ لا تَخلُق مُسبّبَاتها.
يُوجَدُ حيَوانٌ يُقالُ لهُ السّمندل هذا الحيوانُ يتَلذَّذُ بالنّار ولا تُحرِقُه ولا تؤثر فيه وهو مثل غيره من الحيوانات مركّب من لحم ودم، حتى إن الفراء والمناديل المتّخَذة من جلده إذا اتّسخت تُطرح في النار، وحتى إنه يُغمس في الزيت ويُشعل نارا ثم لما ينتهي الزيت تنطفئ النار وتبقى هذه المناديل وقد ذهب عنها الوسخ ولم تحترق، (قال في القاموس: السَّمَنْدَل : طائِرٌ بالهندِ لا يَحْتَرِقُ بالنارِ) هذا جعَلهُ اللهُ تعَالى دليلا لنا على أنّ النارَ لا تَخلُق الإحراقَ بل اللهُ تعالى هو الذي يخلُق الإحراقَ إثْرَ مُلامسَة النار، أي أنّ النارَ لا تَخلُق الإحراقَ بطَبِيعَتِها وأنها لا تؤثّر بطَبْعها في الإحراقِ أي بدونِ إرادةِ اللهِ وخَلْق الله تعالى لهذا الإحراق، فاللهُ تعالى هوَ الذي يَخلُق الإحراقَ ليسَت النارُ تَخلُق الإحراق، وكذلكَ قِصّةُ إبراهيمَ عليه السلام دليلٌ على أنّ النّارَ لا تَخلُق الإحراق، لو كانتِ النّارُ تَخلُق الإحراقَ وأنها بطَبِيعَتِها تؤثّر في ذلكَ لا بمشيئةِ الله وإرادتِه لاحْتَرق إبراهيمُ وما خرَج سالما، وإلى وقْتِنا هذا يوجَدُ أُناسٌ مؤمنون أتقياء أولياء للهِ تعالى يَدخلُون النار الموقَدَة فلا تُحرقُهم ولا ثيابَهم يَمكثُون فيها ما شاء الله، حَكى لنا أحَدُ شيُوخِنا وهو الشّيخ محمد سِراج رحمه الله تعالى قال كنتُ بالسُّودان في ناحيةٍ تُسمّى حَلْفا فحَصل اجتماعٌ حضَره أُناسٌ وحضَره شخصٌ ينتَسِب للطّريقة القادِريّة وشَخصٌ آخرُ ينتَسِبُ للطّريقة التّجّانيّة، الشّخصُ المنتَسبُ للطّريقة التّجّانيّة مُدّع فارغ تبَجَّح بطَريقتِه لأنّه تجّاني فصارَ يَدعُو النّاسَ في هذا المجلِس إليها ليَدخُلوا في هذه الطّريقة فاغتَاظ هذا الرجلُ القَادريّ وهو مِن أولياء الله، غضِب للهِ تبارك وتعالى لأنّهُ يَعلَمُ أنّ هذه الطريقةَ التّجّانيّةَ مخالفة لشَريعة الله وفيها دعَاوَى ما أنزلَ اللهُ بها مِن سُلطان من جملتها أنهم يقولونَ الواحدُ بمجَرّد ما يَأخُذ طَريقتَنا صارَ أفضَل مِنَ القُطْب مِن غيرِنا، هنا خالَفُوا كتابَ الله، اللهُ تعالى قال {إنّ أكْرمَكُم عندَ اللهِ أتْقَاكُم} هذه الطّريقةُ جعَلتِ الفَضلَ بالانتساب إليها ليسَ بالتّقوى، فهذا القَادريّ الذي هوَ مِن أولياءِ الله غضِبَ لله تعالى لأنّهُ وجَد هذا يَدعُو لطَريقَتِه الفاسدة فقال لأهلِ الضّيْعَة يا جماعَة امتَحِنُونا، ومعروفٌ في تلك البلاد أنّ الامتحانَ قد يكونُ بإيقادِ نارٍ عظِيمة ثم دخُولِ الشّخصِ الْمُمتَحَن فيها فأوقَدُوا نارًا عظيمةً، القادريُّ الذي هوَ منَ الصّادقينَ مِنْ أولياءِ الله مِن أهلِ الكرامات جاءتْهُ إشَارة أنّ هذه النارَ لا تؤثّر فيه فدخَل فيها فنَادَى وهو في وسَطِها هذا التّجّاني الدّجّال قال له تعالَ ادْخُل فلم يجرؤ، خرَج مِن هذه القَرية وهو مَخْزيّ، فعرَف الناسُ أنّ هذه الطريقةَ ليسَت على شىء وأنّ المنتَسِبين لها كاذبون ليسُوا مِن أولياء الله، فهذا الصّوفي القادري لم يحتَرق، وغيرُ ذلكَ حصَل لخلائقَ لا يُحصَون أنهم دخَلُوا النّارَ فلَم يَحتَرِقوا، فهذا دليلٌ نصبَه الله تعالى ليَزدادَ المؤمنُ إيْقانًا بأنّ اللهَ تعالى هو خالقُ كُلّ شىء، هو خالقُ الاحتراق إثْرَ مُماسَّة النّار ليسَت النّارُ تَخلُق الاحتراق، كذلكَ السّمّ الذي هو مِن شَأنِه أنّه يَقتُل مُتناولَه في الحالِ ليس هو خالق الموتِ إثْر تَناوُله بل الله تعالى هو يخلُقه، فإن لم يشأ الله تعالى في الأزل أن يموتَ شَخص بتنَاوله للسّمّ القاتِل لا يَقتلُه هذا السّمّ لأنّ الله لم يشأ، والسّمّ لا يؤثّر بطَبْعه الموتَ لمتناولِه، هذا خالدُ بنُ الوليد رضي الله عنه كانَ بالحِيْرة وهناك كانَ كفّارٌ مِن كفّار العَجَم فهيّؤوا لهُ سُمّا قاتلا لسَاعَتِه فقالَ لهم هاتُوا فسمّى اللهَ تعالى وتناوله فلم يؤثّر فيه شيئا بل سالَ العرَقُ على وجْهه، على جَبْهَتِه، فلَمّا شاهَدوا ذلك أي أنّهُ لم يمُت مِن هذا السّمّ هابُوه فانقَادوا له، هذه دلائلُ عِيانيّة نصَبَها الله تعالى لعبادِه حتى يَزدادَ المؤمنونَ إيقانًا بأنّهُ لا خالقَ إلا الله، أي أنّ الأسبابَ العاديّةَ الماءَ والخبزَ والنار والدّواء وغير ذلكَ منَ الأسباب العاديّة لا تخلُق مُسبَّباتها وأنهُ لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله، أي أنّ شيئًا منَ الأشياء منَ الأسباب العاديّةِ لا يَظهَرُ منها مسبّباتها إلا أن يكونَ اللهُ شاءَ في الأزل أن يحصُلَ المسبَّب إثرَ هذا السّبَب، لأن السّبَب لا يخلق ذلك المسبَّبَ إنما الله هو خالقُ ذلك المسبَّب زيادةً في الإيقانِ بأنّ الله تعالى هوَ خالقُ كلّ شىء وأنّ الأسبابَ العاديّةَ لا تَخلُق إنما اللهُ تعالى يَخلُق إثْرَ استعمالها ذلكَ المسبَّب.
قال الله تعالى: {قل الله خالق كلّ شىء}. وقال تعالى: {هل من خالق غير الله}. وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
فالله تبارك وتعالى قال {اللهُ خالقُ كُلّ شَىء} وكلمةُ شىء ليسَت خاصّةً بالأجسام، الكلامُ يُقال لهُ شَىء والبَطشُ أيضًا باليدِ شَىء وتنَاولُه يُقالُ لهُ شَىء واللَّمح بالبَصر يُقالُ لهُ شَىء، حتى الأعمال القَلبيّة يُقال لها شَىء، كُلّ ما دخَل في الوجُود يُقال لهُ شَىء وكلُّ موجُود أيضًا يُقالُ لهُ شَىء، الموجودُ الأزليّ يقالُ لهُ شَىء وهوَ الله، اللهُ تَعالى يُقال لهُ شَىء لكن لا بمعنى الحادث الذي دخَل في الوجود بل بمعنى الموجُود، كلمةُ شَىءٍ هيَ للمَوجُود وإن كانَ هذا الموجُود أزليّا لم يَسبِقْه العَدم وهوَ اللهُ وصفاتُه، عِلمُه وقُدرتُه ومشيئتُه وحَياتُه وسمعُه وبصرُه ورؤيته وغيرُ ذلك مِن صفاته، فكلمةُ شىء تَشمَل الموجودَ الأزلي وهوَ الله وصفاتُه عِلمُه وقُدرتُه ومشيئتُه أي إرادتُه، فلْيُعلَم ذلك وليُعلَّم الذي يجهَلُ هذا.
وفي القرآنِ الكريم دليلٌ على أنّ اللهَ يُطلَق عليه شَىء بمعنى موجود {قُل أيُّ شَىءٍ أَكبَرُ شَهادَةً قُل الله} أي اللهُ تَعالى هو أكبَرُ شَىء شهَادة، سمَّى نَفسَه شَيئًا بمعنى الموجُود لا بمعنى الحادث، هنا المصيبةُ لكَثيرٍ منَ الناس تَأتيْهِم مِن جَهلِهم باللّغة، واللهُ تبارك وتعالى قال {قُل اللهُ خَالقُ كُلّ شىء وهوَ الواحدُ القَهّار} وقوله شىء يَشمَلُ حرَكات العِباد وسكنَاتِهم وأجسادِهم، يدخل في كلمةِ شَىء في هذه الآية كلُّ مَوجُودٍ دخَل في الوجود بعدَ أن كانَ مَعدُومًا. وهناكَ آياتٌ دلّت على أنّ الأعمالَ القلبيةَ أيضًا مخلوقةٌ للهِ تعالى قال الله تعالى {ونُقَلّبُ أفئدَتَهُم وأبصَارَهُم} دلّت هذه الآيةُ على أنّ تقليبِ العبادِ أبصارَهم وتحرّكاتِ قلُوبِهم وتَقلّباتها مِن حالٍ إلى حال كُلّ ذلكَ بخلقِ الله تبارك وتعالى، كانَ مِن دعاءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم « اللّهُمّ مُصَرّفَ القلُوب صَرّفْ قلُوبَنا على طَاعتِك » رواه مسلم والبيهقي والحاكم وغيرهم. الرسولُ قال هذا بعدَ أن قال « إنّ قلوبَ بَني ءادمَ بَينَ إصبَعَين مِن أصابِع الرّحمن يُقلّبُها كيفَ يشَاء » معنى إصبَعَين مِن أصابع الرّحمن بمعنى التّقريب أي أنّ الله تعالى هو يتَصرَّف فيها مِن غيرِ أن يَلحقَه تعَب ومَشقّة، كيفَ يشَاءُ يُقلّبها مِن غيرِ أن يَلحقَه تعَب بل بمَحْض إرادَتِه الأزليّة وقدرته الأزلية يُحدِثها منَ العدَم إلى الوجود، معنى بينَ إصبَعَين مِن أصابع الرحمن أنها في قَبضتِه، أنّ قلُوبَ العبادِ في قَبضتِه لا تَخرُج عن قَبضَتِه، لا تخرج عن مشيئتِه، هو يتصَرّف فيها كيفَ يشَاءُ أي على حسَبِ مشيئتِه في الأزل، ليسَ متَجدّدًا على الله تعالى عِلمُ ذلك، هو عَلِمَ في الأزل وشاءَ تقَلُّباتِ القلُوب، القَلبُ يتقَلَّبُ أكثر مِن تقَلُّب البَصر، أسرَعُ تقَلُّبًا مِن تقَلُّب البصَر، هوَ خالقُ ذلكَ كُلّه، هذا معتَقَدُ أهلِ الحقّ الصّحابةِ ومَن تبِعَهُم. هذا معتقَدُ أهلِ الحقّ الصحابةِ ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدّين ثبّتَنا اللهُ على ذلك وحفظَنا منَ الميل إلى خلافِ ذلك، لأنّ الإنسانَ في هذه الحياةِ عُرضَة للتّقلُّبات والتّغَيرات فرُبَّ إنسانٍ كانَ على حَالةٍ حسَنة يجتَمِعُ بإنسانٍ مِن هؤلاء مِن أهلِ الزّيغ والضّلال مِن معتزلة فيَسمَع مِن أحدِهم هذا الكلامَ الذي هو عَكسُ ما عليه الصّحابة والتابعون، يَسمَع منهم أنّ العَبدَ هو يَخلُق حَركاتِه وسكَناتِه فيَعتقِدُ هذا الاعتقادَ فيَضلّ. فالإنسانُ في هذه الحياة الدّنيا عُرضَةٌ للتّقلُّبات والتّغَيُّرات مِن حالٍ إلى حال فمِنَ الناس مَن وفَّقَهُم الله تعالى فيتقَلَّبُون مِن حالٍ حسَنٍ إلى أحسَن، مِن حسَنٍ إلى أحسَن حتى يتَوفّاهمُ الله وهم على أحسَنِ حال، ومِن الناسِ مَن يَنْقَلِبُون مِن حسَنٍ إلى سيّء ثم إلى أسوأ ثم إلى أسوأ حتى يموتوا وهم على أسوَأ أحوالهم.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله وكلّهم يتقلّبون في مشيئته بين فضله وعدله: يعني أن العباد يتصرفون بمشيئة الله تبارك وتعالى، فإن تصرفوا بالخير فبفضل الله تعالى، وإن تصرفوا في المعاصي والشرور فبعدل الله تبارك وتعالى، وهذا فيه إبطال ما ذهبت إليه المعتزلة من أن العباد تصرفهم في الشر ليس بإرادة الله أما تصرفهم في الخير فبإرادة الله، فهذه التفرقة باطلة، والحق خلاف ذلك فالعباد مهما فعلوا من فعل خيراً كان أو شراً فبمشيئة الله، وفي ذلك بيان أنه ليس واجباً على الله أن يفعل لعباده ما فيه صلاحهم أو ما هو أصلح لهم ومن يدعي ذلك فقد خرج من الإسلام وهذا قول المعتزلة.
ثم هؤلاءِ أهلُ الاعتزال بعدَ أن ظهَروا بينَ المسلمينَ بعَددٍ قليل كانَ بدؤه قَليلٌ جِدّا، هم فهِموا بعضَ الآياتِ القرءانيةَ على غيرِ وجهها فهلَكوا، ثم دعا هؤلاء غيرَهم إلى هذا الاعتقاد الذي هو ضَلالٌ وهَلاك فتبِعَهُم مَن أغواهمُ الله تَبارك وتعالى أمّا الذينَ حفظَهُم الله فهم محفوظُون، هؤلاء المعتزلةُ تكَلَّم فيهم رجالٌ مِن أعلام السّلَف كعمرَ بنِ عبدِ العزيز رضي الله عنه هو كانَ رأيُه في هؤلاء المعتزلة أن يُدعَوا إلى التّوبة أي التّخَلّي عن هذا الاعتقاد وإلا تُضرَب أعناقُهم، كان رجلٌ في عهده يُسمّى غَيلان الدّمشقيّ معتزلي كانَ يَدعُو إلى الاعتزالِ فاستَدعاه لما أُخبر بشأنه أنّه يَدعُو إلى هذه العقيدة الفاسدة فاستَتابَه فأَظهَرَ التّوبةَ فترَكه منَ القَتل لأنّهُ أظْهَر الرّجوعَ ثم بعدَ وفاةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز رجَع إلى ما كان عليه، كانَ رأسًا مِن رؤوس الاعتزالِ فقتَلَه بعضُ الوُلاة الأمويّين بعدَ ذلكَ، بعدَ عمرَ بنِ عبد العزيز، ولهُ أي لعمرَ بنِ عبد العزيز رسالةٌ في الردّ على المعتزلة وكذلكَ لأناسٍ ءاخَرِين مِن أعلام السّلَف مِن جملتِهم أبو حنيفة فإنّهُ كانَ شَديدَ الاعتناءِ بالرّد عليهم حتى إنهُ سافرَ مِن بغدادَ إلى البصرة وبينَهُما مسافةٌ واسِعة لدَحْض أباطِيلِهم ونَقْضِ شُبَهِهم وتمويهاتهِم أكثرَ مِن عشرينَ مرّة، هكذا كانَ السّلَف الصالح رضي الله عنهم، في ذلك العصر الذي لم يكن فيه من أسبابِ التّنقلات العاديّة إلا ركوب الدّواب، تَكلَّف هذه المشاقّ لوجْه الله تعالى ونُصرَةِ دِينِه محافظةً على سُنّة رسولِ الله جزاهُ اللهُ عن المسلمينَ خَيرا، ليسَ لدَحْض هؤلاء المعتزلة فقط بل كانت البَصرةُ فيها أصنافٌ مِن الضّالّين، المعتزلةُ كانُوا فيها وأهلُ الإرجاء كانوا فيها وبعضُ الملاحِدة المشكّكِين في الإسلام للنّاس كانوا فيها، كانت رحَلاتُه هذه بقَصد دَحْض هؤلاء الفِرَق كلّها، الله تبارك وتعالى ءاتاه قوّةً في الجَدل وقوّةً في البَيان.
فالصّحابةُ كانوا يعتقدونَ أنّ الخالقَ لا يُشبهُ شيئًا عمَلا بالدّليل العقلي والدليلِ القرءاني، أمّا الدليلُ العقليُّ فهوَ أنّ الخالقَ لا يجُوز عقلا أن يُشبِهَ مَخلُوقَه بوَجه منَ الوجُوه لأنّهُ لو كان يُشبِهُ مَخلُوقَه بوَجْه مِنَ الوجوه لجَاز عليه ما يجوزُ على سائرِ المخلوق منَ الموت والتّغَير والضّعْف وذلك ينافي الألوهيّةَ وأمّا الدليلُ القرءانيّ فقوله تعالى {ليسَ كمثله شىء} نفى اللهُ تبارك وتعالى عن نَفسِه أن يُماثلَه شَىءٌ سواه.
بَعدَ عَقد القَلب على هذا، أهل السنة لهم حالٌ خَصّهُم الله تبارك وتعالى به وفضّلَهم على غيرِهم مِن أهلِ التّشبيه وهو أنهم إذا مَرُّوا بآيةٍ قُرءانيّة أو حديثٍ نبَويّ ظاهرُه يوهِمُ أنّ اللهَ يُشبِهُ شيئًا مِن خَلقِه لا يعتقدونَ أنّ هذا الذي يوهمُه ظَاهرُ النّص القرءاني أو الحديثي مرادٌ لله تبارك وتعالى أن يكونَ معنى القرءانِ أو الحديث بل يعتقدونَ أنّ هذه الآيةَ لا تُحمَل على ظاهرِها وأنّ هذا الحديثَ لا يُحمَل على ظاهره حتى لا يَخرُجوا عن مقتَضى قوله تبارك وتعالى {ليسَ كمثلِه شىء} فالمسلم الذي اعتقادُه مبنيّ على التنزيه ثابتٌ على ذلك، إذا مرَّ على ءاية {الرّحمنُ على العَرشِ استوَى} لا يفسّرها بشىءٍ يُشبِه أحوالَ المخلُوق كالجلُوس والاستقرار بل يحملُه على القَهر لأنّ القهرَ صِفةٌ مِن صفاتِ الله، من صفاتِ الكمال للهِ تَبارك وتعالى، هوَ وصَف نَفسَه بأنّهُ قهّارٌ لأنّ القَهرَ مِنَ الصّفاتِ الدّالّةِ على الجَلال والعظَمَة، يُفسّر الاستواءَ على العرشِ بالقَهر أي أنّهُ قاهرُ العَرش فإذا كانَ قاهرًا للعَرش فهو قاهرٌ لكلّ شىء لأنّ العَرشَ أعظمُ المخلوقات مِن حيثُ المِسَاحة.
الحمد لله رب العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=21