الله متفضل على عباده و ليس واجبا عليه شيء
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أمّا بعد:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قاربِوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجُو أحدٌ منكم بعمَله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنيَ اللهُ برحمةٍ منه وفضل » رواه مسلم. اعلم أنه قد اتفقت كلمة أهل الحق على أن الله تعالى لا يجب عليه شيء فهو عزَّ وجل فعَّالٌ لما يُريد فلا آمر ولا ناهي له، يحكم في خلقه بما يريد، ويفعل في ملكه ما يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فكم نرى من صالحٍ مقتّر عليه في الرزق وينهال عليه البلاء كالسيل الجارف وهو ثابتٌ على طاعة الله، وكم نرى من فاسدٍ في نفسه مفسدٍ في الأرض لا يُراعي حقًا ولا يفي بعهدٍ ولا يحفظ ذمةً مبسوطٌ له في الرزق يحيا في نعيم قد اغتر بمتاع الدنيا الزائلة وأغراه الشيطان، وكم تسلَّط كثيرٌ من الجبابرة على الرقاب فعاثوا بغيًا وضلالاً وكل ذلك لحكمةٍ يعلمها الله الحكيم، فليس لأحدٍ أن يعترض على الله إذا رأى مثل ذلك كما أنه ليس لأحدٍ أن يعترض على الله تعالى إذا رأى إيلام الأطفال وذبح البهائم التي أحل الله لنا الانتفاع بلحومها. الله لا يُسأل عما يفعل.
ثم إن الله لا يرجو ثوابًا ولا يخاف عقابًا ولا يجتلب بمخلوقاته نفعًا ولا يدفع بهم عن نفسه ضُرًا، أما نحن فننتفع ونتضرر بحسب أعمالنا فمن أطاع الله كما أمر الله نفع نفسه ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه وصار مستحقًا لعذاب الله الشديد.
قال الحافظ ابن عساكر في عقيدته: « وكل نعمةٍ منه فضلٌ وكل نقمةٍ منه عدلٌ ». وقد دلت الآية والحديث على هذا المعنى قال أبو حيَّان في تفسيره البحر المحيط: « لا يُسأل عن حُكمه في عباده وهم يُسألون عن أعمالهم ». فالناس يُسألون ويُحاسبون لأنهم مأمورون بما فَرَضه الله عليهم، فليس لأحدٍ أن يعترض على الله فهو خالقهم ومالكهم على الحقيقة فيجزيهم بما قدمت أيديهم ولا يكون ظالما لهم، إذ الظلم هو مخالفة أمر ونهي من له الأمر والنهي أو هو التصرف في مِلك الغير بغير إذنه، والله مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد وهو الآمر المطلق والناهي المطلق فلا يُتصور في حقه الظلم قال تعالى: { وما ربك بظَلامٍ للعبيد } سورة فُصِّلت. فلا يصح أن يُقال "يجب على الله كذا" لأن هذا معناه أنه محكومٌ لغيره، والمحكومية تُنافي الألوهية، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا المعنى فأوصى أولاً بالمقاربة أي بترك الغُلو وترك التقصير، والغلو هو مجاوزة حد الشرع، والتقصير هو الإخلال بما أمر الله به. وأوصى صلى الله عليه وسلم بالسداد أي الاستقامة وهي الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، ثم أوضح لأمته المعتقدَ الحق الذي يجب أن يكون مستقرًا في النفوس فقال: « واعلموا أنه لن ينجو أحدٌ منكم بعمله » أي لا يجب على الله أن يُدخل أحدًا الجنةَ ويزحزحه عن النار لأجل عمله ولو كان عمله عبادة ألف سنة، بل ولو كان أفضلَ خلقه وهو نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كما صرَّح بذلك بعد سؤال الصحابة له فقال: « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله (أي يغمرني) برحمةٍ منه وفضل ». وإذا ما كان هذا هو الحال بالنسبة لأجَلِّ الأنبياء وسيدِ السادات صلى الله عليه وسلم فكيف بمن هم دونه، ولكن فضل الله على المؤمنين عظيم ونعمه عليهم أكثر من أن تُحصى قال تعالى: { وإن تعُدّوا نعمةَ الله لا تُحصوها } سورة إبراهيم.
لا يجب على الله شيء: قال النووي في شرح صحيح مسلم: « مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثوابٌ ولا عقابٌ ولا إيجابٌ ولا تحريمٌ ولا غيرُها من أنواع التكليف ولا تثبت هذه كلها إلا بالشرع، ومذهبهم أن الله تعالى لا يجب عليه شيء بل الدنيا والآخرة ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو عذَّب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونَعَّمهم وأدخلهم الجنة فهو فضلٌ منه، ولو نعَّم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدقٌ أنه لا يفعل ذلك بل يغفر للمؤمنين ويُدخلهم الجنة برحمته ويعذّب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه، وفي هذا الحديث دلالةٌ لأهل الحق أنه لا يستحق أحدٌ (أي ليس حقًا واجبًا على الله) الثواب والجنة بطاعته ».
وأما قول الله تعالى في سورة النحل: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقوله في سورة المرسلات: { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يُدخل بها الجنة فلا تعارض بينها وبين ما قلناه بل المعنى أن دخول الجنة والتنعم فيها بالأعمال أي بسببها، وهذا من رحمة الله وفضله كما دلَّ على ذلك الحديثُ فإن الله قد جعل الأعمال الصالحة سببًا للفوز في الآخرة برحمته لا بإيجاب أحدٍ ذلك عليه، فإن قيل: إذًا ما معنى قول الله تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } سورة الروم وما معنى ما أخرجه البخاري عن معاذٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذّب من لا يُشرك به شيئاً » (أي وقد عبده حق عبادته) فالجواب أن الآية والحديث وما أشبه ذلك من النصوص معناه أن الله وَعَدَ واللهُ لا يُخلف وعدَه.
قال النووي في شرح صحيح مسلم: قال صاحب التحرير: « اعلم أن الحقَّ كلُّ موجودٍ مُتَحَقِّقٍ أو ما سيوجد لا محالة، والله سبحانه هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي، والموت والجنة والنار حق أي أنها واقعةٌ لا محالة، فحق الله على العباد ما يستحقه عليهم وحقهم عليه معناه مُحقَقٌ لا محالة ».
وليس لأحدٍ أن يقول "لازم على الله كذا" أو "ألزم اللهُ نفسه بكذا" فالحذر الحذر من مثل هذه الألفاظ الشّنيعة فإنّ اللّه لا يجب عليه شيء و هو فعّال لما يريد. هذا و أستغفر اللّه.
https://www.islam.ms/ar/?p=351