أقوال العلماء في شرح حديث الجارية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيِّدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين . أمَّا بعد فقد رُوِّينا في مسلم والبيهقي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ الإسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء » قيل: وَمَنْ هُمْ الغُرَبَاءُ يَا رَسُول الله قَال: « الذِينَ يُصْلِحُونَ مِنْ سُنَّتِي مَا أَفْسَدَ النَّاس » وسنّة الرَّسول هي شريعته ، أي العقيدة والأحكام. في هذا الحديث بشارة لمن يتمسك في هذا الزَّمن الذي فسدت الأمة فيه بسنَّة الرَّسول أي شريعته.
قال الإمام النووي في شرح حديث الجارية في كتابه شرح صحيح مسلم الجزء الخامس كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة باب تحريم الكلام في الصَّلاة ونسخ ما كان من إباحته : " هذا الحديث من أحاديث الصّفات، وفيها مذهبان تقدَّم ذكرهما مرَّات في كتاب الإيمان: أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أنَّ الله ليس كمثله شىء، وتنـزيهه عن سمات المخلوقات. والثَّاني: تأويله بما يليق به. فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحِّدة تقرُّ بأنَّ الخالق المدبِّر الفعَّال هو الله وحده، وهو الَّذي إذا دعاه الدَّاعي استقبل السَّماء، كما إذا صلَّى المصلِّي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنَّه منحصر في السَّماء، كما أنَّه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأنَّ السَّماء قبلة الدَّاعين، كما أنَّ الكعبة قبلة المصلِّين، أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان الَّتي بين أيديهم، فلمَّا قالت: في السَّماء علم أنَّها موحِّدة وليست عابدة للأوثان. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم " انتهى.
وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه " وقيل في تأويل هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألها بأين عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها باين كلَّ مَن نُسبت إليه الإلهية وهذا كما يقال: أين الثريا من الثرى؟! والبصر من العمى؟! أي بعُدَ ما بينهما واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة على هذا يكون قولها في السماء أي في غاية العلو والرفعة وهذا كما يقال: فلان في السماء ومناط الثريا " اهـ
وقال الرازي أيضا في كتابه أساس التقديس : " إن لفظ أين كما يجعل سؤالا عن المكان فقد يجعل سؤالا عن المنـزلة والدرجة يقال أين فلان من فلان فلعل السؤال كان عن المنـزلة وأشار بها إلى السماء أي هو رفيع القدر جدا ". اهـ
وفي كتاب إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للإمام محمد بن خليفة الأبي ما نصه : " وقيل إنما سألها بأين عما تعتقده من عظمة الله تعالى، وإشارتها إلى السماء إخبار عن جلاله في نفسها، فقد قال القاضي عياض لم يختلف المسلمون في تأويل ما يوهم أنه تعالى في السماء كقوله تعالى {ءأمنتم من في السماء} ".اهـ ومثله في كتاب مكمل إكمال الإكمال شرح صحيح مسلم للإمام محمد السنوسي الحسني.
وقال الإمام محمد بن أحمد السرخسي الحنفي المتوفى سنة 483 هـ في كتابه المبسوط، [المجلد الرابع (الجزء 7) تابع كتاب الطلاق] باب العتق في الظهار : " فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات: أن الرجل قال عليّ عتق رقبة مؤمنة، أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة، فلهذا امتحنها بالإيمان، مع أن في صحة ذلك الحديث كلامًا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أين الله فأشارت إلى السماء) ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانًا، ولا حجة لهم في الآية، لأن الكفر خبث من حيث الاعتقاد، والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد إنما المصروف إلى الكفارة المالية، ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال ". اهـ
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح سنن الترمذي : " أين الله؟ والمراد بالسؤال بها عنه تعالى المكانة فإن المكان يستحيل عليه ". اهـ
وقال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه بعد رواية حديث معاوية بن الحكم : " قلت " قد ثبت عند العلماء أن الله تعالى لا يحويه السماء والأرض ولا تضمه الأقطار وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق عندها ". اهـ
وقال العلامة أبو الوليد الباجي : " لعلها تريد وصفه بالعلو وبذلك يوصف كل من شأنه العلو فيقال فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه ". اهـ
وقال البيضاوي : " لم يرد به السؤال عن مكانه فإنه منـزه عنه والرسول أعلى من أن يسأل ذلك ". اهـ
وقال الإمام الحجة تقي الدين السبكي في رده على نونية ابن قيم الجوزية المسمى بالسيف الصقيل: " أما القول فقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ قالت في السماء، وقد تكلم الناس عليه قديما وحديثا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل لأنه مشَّاء على بدعة لا يقبل غيرها ". اهـ
قال الفخر الرازي: " وأما عدم صحة الاحتجاج بحديث الجارية في إثبات المكان له تعالى فالبراهين القائمة في تنـزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات، قال الله تعالى {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} [الأنعام:12] وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى، وقال تعالى {وله ما سكن في الليل والنهار} [الأنعام:13] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيه الله سبحانه عن المكان والزمان ". اهـ
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر في كتاب التذكار في أفضل الأذكار : " لأن كل من في السموات والأرض وما فيهما خلق الله تعالى وملك له وإذا كان كذلك يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شىء لكان محصورا أو محدودا ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق وعلى هذه القاعدة قوله تعالى {ءأمنتم من في السماء} وقوله عليه السلام للجارية: أين الله؟ قالت في السماء، ولم يُنكر عليها وما كان مثله ليس على ظاهره بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم ". اهـ
وقال بعض العلماء إن الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك وفيها أن الرسول قال لها [أتشهدين أن لا إله إلا الله" قالت: "نعم" قال: "أتشهدين أني رسول الله" قالت: "نعم"]. أخرجها الإمامان إماما أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ومالك بن أنس رضي الله عنهما.
أما أحمد فأخرج عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمَةٍ سوداء فقال: "يا رسول الله إن عليَّ رقبه مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة فأعتقها" فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم [أتشهدين أن لا إله الا الله] قالت: "نعم"، قال [أتشهدين أني رسول الله] قالت: "نعم"، قال [أتؤمنين بالبعث بعد الموت] قالت: "نعم"، قال [أعتقها]، ورجاله رجال الصحيح. وفي رواية لابن الجارود بلفظ: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال: اعتقها فإنها مؤمنة. وهي رواية صحيحة.
ومنها ما رواه الإمام ابن حبان في صحيحه عن الشريد بن سويد الثقفي قال قلت: يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال: ادع بها، فجاءت فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة. ورواه أيضا بهذا اللفظ النسائي في الصغرى وفي الكـبرى والإمام أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي ورواه أيضا بهذا اللفظ ابـن خزيمة في كتابه الذي سماه كتاب التوحيد من طريق زياد بن الربيع عن بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن الشريد.
قال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث (الذي فيه حكم على الجارية بالإسلام لأنها قالت: في السماء) يخالف الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيا. وهذا الحديث المتواتر الذي يعارض حديث الجارية قوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله". هذا الحديث فيه أنّ الرسول لا يحكم بإسلام الشخص الذي يريد الدخول بالإسلام إلا بالشهادتين. لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يحكم له بقول " الله في السماء" بالإسلام لأن هذا القول مشترك بين اليهود والنصارى وغيرهم وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله]. اهـ ولفظ رواية مالك : أتشهدين، موافق للأصول. لذا حكم الحافظ أبو بكر البيهقي وغيره باضطراب حديث الجارية هذا.
- الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال في "الأسماء والصفات" وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعا من حديث الاوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية ؟ وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه ، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث " (انظر السنن الكبرى 7 / 388).
- الحافظ البزار قال بعد أن روى الحديث من طريق من طرقه (كما في كشف الاستار 1 / 14) [وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة].
- قال الإمام محمد بن أحمد السرخسي الحنفي المتوفى سنة 483 هـ في كتابه المبسوط، المجلد الرابع (الجزء 7) [تابع كتاب الطلاق] باب العتق في الظهار " فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات: أن الرجل قال عليّ عتق رقبة مؤمنة، أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة، فلهذا امتحنها بالإيمان، مع أن في صحة ذلك الحديث كلامًا " اهـ
- قال الامام الحافظ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى في كتابه "السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل" ص (94) [أقول : أما القول : فقوله للجارية " أين الله ؟ قالت : في السماء " وقد تكلم الناس عليه قديما وحديثا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل]. اهـ
- الحافظ ابن حجر العسقلاني قال في "التلخيص الحبير" (3 / 223) ما نصه [وفي اللفظ مخالفة كثيرة] اه .
قال الحافظ في "فتح الباري" (1 / 221) [فإن إدراك العقول لاسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف؟ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث . .] اه .
- المحدث الكوثري حكم بالاضطراب في تعليقه على "الأسماء والصفات" ص (422) فقال [وقصة الجارية مذكورة فيما بأيدينا من نسخ مسلم لعلها زيدت فيما بعد إتماما للحديث، أو كانت نسخة المصنف ناقصة؟ وقد أشار المصنف - أي البيهقي - إلى اضطراب الحديث بقوله (وقد ذكرت في كتاب الظهار - من السنن - مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث) . . ] وفي تعليقه رحمه الله تعالى على كتاب الحافظ السبكي "السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل" ص (94) توسع في مبحث اضطرابه.
- المحدث عبد الله ابن الصديق ذكر في تعليقه على كتاب "التمهيد" (7 / 135) للحافظ ابن عبد البر عن لفظ "أين الله" ما نصه [رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقد تصرف الرواة في ألفاظه، فروي بهذا اللفظ كما هنا وبلفظ "من ربك؟" قالت: الله ربي. وبلفظ "أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ " قالت: نعم. وقد أستوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي . . .]
فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم: أين الله ، فقالت: في السماء ، الى ءاخره مردودة مع إخراج مسلم له في كتابه وكل ما رواه مسلم موسوم بالصحة؟
فالجواب: أن عددا من أحاديث مسلم ردها علماء الحديث وذكرها المحدثون في كتبهم كحديث أن الرسول قال لرجل: إن أبي وأباك في النار، وحديث إنه يعطي كل مسلم يوم القيامة فداء له من اليهود والنصارى، وكذلك حديث أنس: صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم. فأمّا الأول ضعفّه الحافظ السيوطي. والثاني رده البخاري، والثالث ضعّفه الشافعي.
فائدة: تضعيف السيوطي في كتابه مسلك الحنفا في نجاة أبوَي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتضعيف الإمام الشافعي مذكور في كتب الحديث المطولة كشرح ألفية العراقي في علم الحديث (فتح المغيث) للعراقي نفسه، أما تضعيف البخاري ففي فتح الباري قال الحافظ ابن حجر ما نصه: وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار، قال البيهقي ومع ذلك فضعفه البخاري وقال الحديث في الشفاعة أصح. انتهى
ولو صح حديث الجارية لم يكن معناه أن الله ساكن السماء كما توهم بعض الجهلة بل لكان معناه أن الله عالي القدر جدا، وعلى هذا المعنى أقر بعضهم صحة رواية مسلم هذه.
ونقول للمشبهة: لو كان الأمر كما تدعون من حمل ءاية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طـه:5) ) على ظاهرها وحمل حديث الجارية على ظاهره لتناقض القرءان بعضه مع بعض والحديث بعضه مع بعض، فما تقولون في قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) فإمّا أن تجعلوا القرءان مناقضا بعضه لبعض والحديث مناقضا بعضه لبعض فهذا اعتراف بكفركم لأن القرءان ينـزه عن المناقضة وحديث الرسول كذلك، وإن أولتم ءاية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) ولم تأولوا ءاية الاستواء فهذا تحكّم أي قول بلا دليل.
وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبصقن في قبلته ولا عن يمينه فإن ربه بينه وبين قبلته]، وهذا الحديث أقوى إسنادا من حديث الجارية. وأخرج البخاري أيضا عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده]. وفي مسند الامام أحمد [أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا ان الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته]. اهـ
فيقال للمعترض: إذا أخذت حديث الجارية على ظاهره وهذين الحديثين على ظاهرهما لَبَطَلَ زعمك أن الله في السماء وإن أَوَّلْت هذين الحديثين ولم تؤوِّل حديث الجارية فهذا تحكم ـ أي قول بلا دليل ـ ويصدق عليك قول الله في اليهود {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: من الآية85) وكذلك ماذا تقول في قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) فإن أوَّلته فلِمَ لا تؤول حديث الجارية. وقد جاء في تفسير هذه الآية عن مجاهد تلميذ ابن عباس [قِبلَةُ الله]، ففسر الوجه بالقبلة، أي لصلاة النفل في السفر على الراحلة.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا الدعاء]. اهـ
ونختم هذا الجواب بما في كتاب رد المحتار على الدر المختار [كتاب الصلاة] باب شروط الصلاة استقبال القبلة حقيقة أو حكما كعاجز، والشرط حصوله لا طلبه، وهو شرط زائد للابتلاء قوله (للابتلاء) علة لمحذوف أي شرطه الله تعالى لاختبار المكلفين لأن فطرة المكلف المعتقد استحالة الجهة عليه تعالى تقتضي عدم التوجه في الصلاة إلى جهة مخصوصة فأمرهم على خلاف ما تقتضيه فطرتهم اختبارا لهم هل يطيعون أو لا كما في البحر. ج. قلت: وهذا كما ابتلى الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم حيث جعله قبلة لسجودهم. اهـ
إذا قال المشبِّه إنَّ القرءان والحديث يدلان على أنَّ الله تعالى متحيز في جهة فوق ، كيف يرد عليه ؟ الرد يكون بالدليل النقلي لأن هذه الفرقة فرقة التشبيه تقول: نثبت لله ما أثبت لنفسه وننفي عنه ما نفى عن نفسه . معنى كلامهم أنَّهم يثبتون لله مشابَهة الخلق . أمّا قولهم: وننفي عنه ما نفى عن نفسه ، يريدون بذلك نفي تنـزيه الله عن التحيز في المكان والجهة وعن الجسمية ونحو ذلك من أوصاف الجسم كالحركة والسكون والانتقال والانفعال إلى غير ذلك من صفات الحجم. القدماء منهم كان قسم منهم يقول: هو حجم لطيف نور يتلألأ، أمَّا هؤلاء الذين في هذا العصر يقولون عن الله : جسم كثيف ، بدليل قولهم إنَّه في الآخرة لَمَّا يقال لجهنَّم هل امتلأت فتقول هل من مزيد ، إن الله تعالى يضع قدمه فيها ولا يحترق ، فهذا دليل على أنَّهم مجسمة .
إذا أورد أحد المشبهة حديث الجارية يقال لهم: هذا الحديث يخالف الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر أو ستة عشر صحابياً . وهذا الحديث المتواتر الذي يعارض حديث الجارية فيه قوله عليه السلام: " حتى يشهدوا أَن لاَّ إِله إلاَّ الله وأنِّي رَسُولُ الله " هذا الحديث معناه أنَّه لا يحكم بإسلام الشخص إلا بالشهادتين . وحديث الجارية فيه أنَّ الرَّسول اكتفى بالحكم لإِسلام الجارية التي جاء بِها صاحبها ليمتحنها الرَّسول ليعتقها إن كانت مؤمنة بأنَّها قالت في السَّماء ، في هذا الحديث أنَّ الرَّسول قال لها : أين الله ، قالت : في السَّماء ، قال: من أنا قالت : رسول الله ، قال: أعتقها فإنَّها مؤمنة. هذا اللفظ رواه مسلم من طريق صحابي واحد ، وبين هذا الحديث وبين الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًّا تعارضٌ لأن حديث الجارية يوهم أنه يكفي أن يقول الشخص: "الله في السماء" للحكم له بالإيمان وهذا خلاف الحق ، بِهذا يُرَدُّون. فإن قال قائل إن هذا الحديث حديث الجارية وافق عليه شرَّاح مسلم: النّووي والرّازي وغيرهما ، الجواب أنْ يقال إنَّ هؤلاء ما حَملوه على الظَّاهر بل أوَّلوه، النَّووي والرَّازي وغيرهما الذين شرحوا كتاب مسلم ما حملوه على الظَّاهر كما أنتم حملتموه على الظَّاهر إنَّما قالوا : معنى "أين الله" سؤال عن عظمة الله وليس سؤالاً عن التحيز في مكان لأنَّه يقال في اللغة : "أين فلان" بمعنى ما درجته ، ما علو قَدْرهِ ؟ فإذا قال "في السَّماء" معناه رفيع القدر عالي القدر ، على هذا حملها هذان الشارحان النّووي والرّازي ، ما حملاه على الظَّاهر كما حملته الوهابية على الظاهر . فإن تركتم حمله على الظَّاهر وأوّلتموه كما أوّلوه لم يلزمكم الكفر بالنسبة لهذه المسألة، كما أنَّ أولئك لَمَّا حَملوه على خلاف الظَّاهر وأولوه تأويلا أي أخرجوه عن الظَّاهر ، ما فسروه على الظاهر، سلِموا من الكفر ، أمَّا من حمله على الظَّاهر وقال : هذا دليلٌ على أنَّ الله متحيز في السَّماء فحكمه التكفير ، ثم إنَّ كلمة "في السماء" في اللغة تستعمل للتحيّز وتستعمل لرفعة القدر أي لعلو الدرجة، الله وصف نفسه بأنَّه رفيع الدرجات أي أنَّه أعلم من كل عالم وأقدر من كل قادر ونافذ المشيئة في كل شىء .
كلمة "أين" تأتي للسؤال عن الحيِّز والمكان وتأتي للسؤال عن القدر والدرجة والحاصل أن الحديث الذي يعرف بحديث الجارية والذي يتمسك به المشبهة متعلقين براوية الإمام مسلم هو عند علماء الحديث ليس بصحيحٍ لأمرين : للاضطراب لأنه رُويَ بِهذا اللفظ (أي لفظ مسلم) وبلفظ : من رَبُّك ، فقالت : الله ، وبلفظ : أينَ الله ، فأشارت إلى السّماءِ ، وبلفظ : أتَشهَدينَ أن لا إله إلا الله ، قالت : نعم ، قال : أتشهدين أنِّي رسولُ الله ، قالت : نعم . واللفظ الأخير هو في رواية الإمام مالك في الموطأ . ومالك أقوى من مسلم في الرواية لأنه لا يفصله عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاّ ثلاثة أو أربعة من الرواة . والأمر الثَّاني : أن رواية أين الله مخالفةٌ للأصولِ لأن من أصول الشريعةِ أن الشخصَ لا يُحْكَمُ له بقولِ "الله في السماء" بالإسلامِ لأنَّ هذا القولَ مشتَركٌ بين طوائف أهل الكتاب وغيرِهم وإنما الأصلُ المعروفُ في شريعةِ الله ما جاءَ في الحديث المتواتر الذي ذكرناه ءانفاً .
أمَّا احتجاج هؤلاء المشبّهة بآية ﴿ءأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء﴾ فالجواب أن يقال لهم (من في السماء) المراد الملائكة وليس المراد بكلمة "من" الله . لأن الملائكة لو أمرهم الله أن يخسفوا بالمشركين الأرض لخسفوا بِهم ، كذلك الآية الأخرى التي تليها ، أي ريحا شديدة ، فالملائكة هم يرسلون الريح فالله تعالى لو أمرهم بأن يرسلوا ريحاً تبيدهم لفعلوا هذا معنى الآيتين ﴿ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَّخْسفَ بِكُم الأَرْضَ﴾ والآية التي تليها ﴿أَمْ أمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُّرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصباً﴾ أي رِيحاً شديدة .
وهذه الآية تفسَّر بِما ورد في الحديث الصّحيح (( ارْحَمُوا مَن فِي الأَرْضِ يَرْحَمكُم من فِي السَّمَاءِ)) ووردت رواية صحيحة أخرى (( ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ )) هذه الرواية فسرت "من في السَّماء" المذكورة في الآية أن المراد بِمن في السَّماء الملائكة لأنَّ الله لا يُعَبَّرُ عنه بأهل السَّماء إنَّما يُعَبَّرُ بأهل السَّماء عن الملائكة لأنَّـهم سكانـها أي سكان السَّمـوات ، بِهذا يُجاب عن تمسك المشبّهة بالاحتجاج بِهاتين الآيتين.
ثم كل ءاية يتمسكون بِها يدل ظاهرها على أن الله حجمٌ متحيزٌ في جهة فوق وأنه يتحرك ينـزل وينتقل إلى تحت إلى السماء الدنيا وأنه يوم القيامة ينزل إلى الأرض مع الملائكة بذاته كما هو ظاهر الآية ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْـمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ يُجاب عن هذا كلّه بأنَّ هذه الآيات تفسيرها على الظاهر يؤدي إلى التناقض في القرءان والقرءان منـزَّه من التناقض ، لأنَّ هذه الآيات لو فُسرت على الظَّاهر لعارضها ءايات أخرى ظاهرها أنَّ الله في جهة الأرض كقوله تعالى ﴿ولله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ [سورة البقرة / 115] . ظاهر هذه الآية أنَّ الله هنا في محيط الأرض بحيث يكون الذي يصلي إلى الجنوب أو إلى الشمال أو إلى المشرق أو إلى المغرب يكون اتـجه إلى ذات الله وهذا لا يقولون به . يقال لهم : تلك الآيات قرءان وهذه الآية وأمثالها قرءان وأنتم لا تحملون هذه الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة تحت وأمثالها كآية ﴿وقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [سورة الصافات / 99 ] هذه الآية تخبر عن إبراهيم أنه لما ترك قومه الذين لم يقبلوا منه ترك عبادة الأوثان قال : إني ذاهب إلى ربي . ظاهر هذه الآية أن الله متحيز في فلسطين لأن إبراهيم كان قاصداً أن يذهب إلى فلسطين ، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ولا تلك الآية ، وكل تلك التي فسرتـموها على الظاهر والتي لم تفسروها على الظَّاهر قرءان ، على هذا يلزمكم التناقض في القرءان . فلا سبيل للنجاة من لزوم التناقض في القرءان إلاَّ أنْ تُؤول الآيات التي ظواهرها أنَّ الله في جهة فوق متحيز والآيات التي ظواهرها أنَّ الله في جهة تحت ، يجب أن لا تُحمل على الظَّاهر ، هذه تؤول وهذه تؤول . ثم التأويل بعض أهل السنة قالوا : بلا كيف، بلا شكل ولا كمية ، أو يقال على ما يليق بالله كما في ءاية ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ لنفي التحيز والجلوس على العرش عن الله وفي ءاية ﴿فَأَيـنَمَا تُـوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾ يقال : فثم قبلة الله كما قال بعض السلف مجاهد الذي أخذ العلم عن ابن عباس رضي الله عنهما . أمَّا ءاية ﴿وَقَالَ إِنِّـي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّـي﴾ معناه أي إلى المكان الذي أعبد فيه ربِّي بلا إيذاء لأنَّ قومه رموه في النَّار فلم يحترق ومع هذا لم يُسلموا له ، لم يتبعوه في الإسلام .
وقد رَوى البُخَارِيُّ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا كَانَ أَحَدُكُم في صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي ربَّه فلا يَبْصُقَنَّ في قِبْلَتِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ )) ، وهذا الحديثُ أقْوى إسناداً منْ حَدِيثِ الجَارِيَةِ . ومعنى هذا الحديث أن المسلم الَّذي يُقبلُ على ربه في صلاته فلا يبصقن في جهة القبلة ولا عن يمينه فإنَّ رَحمة ربه بينه وبين قبلته.
وأَخْرَجَ الُبخَارِيّ ُ أَيْضاً عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ارْبَعُوا على أَنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِباً ، إنَّكم تَدْعُونَ سميعاً قَرِيباً ، والذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ )) . ومعنى الحديث أي هَونوا على أنفسكم ولا تجهدوها برفع الصوت كثيرا في التكبير والدعاء فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يغيب عن سمعه وبصره وعلمه شىء وهو أعلم بكم ، وهو قريبٌ سميعٌ مجيبٌ أقرب إلى أحدكم معنىً لا حسَّاً أي بعلمه.
والحاصل من وفقه الله للفهم وأرشده للحق علم أنَّ عقيدة الإسلام هي تنـزيه الله عن مشابَهة المخلوقين وأنَّه تعالى موجود بلا كيف ولا مكان والحمد لله ربِّ العالمين.
فليُعلم أن القـرءان الكريم فـيه ءاياتٌ محكمات وءاياتٌ مُتَشابِهات . قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْـكَماَتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاَبِ وأُخَرُ مُتَشَبِهَاتٌ } [ سورة ءال عمران ] والآيات المـحكَمة هي ما عُرِف بوُضوح المعنى المرادِ منه كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شىءٌ } [ سورة الشورى ءاية/11 ].
وأما المتشابِه فهو ما احتمل أوجُهاً عديدة واحتاج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق . فلا يجوز أن يفسِّر إنسانٌ القرءانَ برأيه بلْ يسأل أهل المعرفة حتى لا يقع في التشبيه المُهْلِك . فيجب ردّ تفسير الآيات المتشابِهة إلى الآيات المحكمة .
وبالمناسبة نورد بعض الآيات المتشابِهة ونذكر تفسيرها الذي يوافق الآيات المحكمة . قال الله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ سورة فاطر ] . فالمقصود بكلمة " إليه " أي إلى محلّ كرامته وهو السّماء ، فهذا مطابقٌ ومنسجمٌ مع الآية المحكمة : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شىءٌ } وهو تفسيرٌ صحيحٌ ليس فيه تشبيهٌ لله بِخَلْقِهِ .
ويجوز أن يُقال في قوله تعالى : { الرَّحْمَـنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى } [ سورة طه ] أي قهرَ وحفِظَ وأبقى العرش ، والفائدة من ذلك أن يُعْلَم أن الله مسيطرٌ على كلّ المخلوقات لأن العرش أكبر المخلوقات حَجْمًا . ولا يجوز تفسير الآية المتشابِهة على معنى لا يليق بالله عزَّ وجلَّ . فلا يجوز أن يقال استوى أي جلس لأن الجلوسَ لا يكون إلا من ذي أعضاء والأعضاء مستحيلةٌ على الله . قال الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : " إِنَّ الله خَلَقَ العَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ " .
وليُعلَم أن الله تعالى خالقُ الروح والجسد فليس روحاً ولا جسداً . وأما إضافة الله تعالى روحَ عيسى إلى نفسه فهو على معنى المِلك والتشريف ، لا على معنى الجزئية . فقوله تعالى : { فَنَفْخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنا } [ سورة التحريم ] معناه أن الله أمر الملَكَ جبريل أن ينفخ في مريم رُوحَ عيسى التي هي مُشرّفة عنده ، لأن الأرواح قسمان : أرواحٌ مشرّفةٌ وأرواحٌ خبيثةٌ ، وأرواح الأنبياء من القسم الأول . فإضافة روح عيسى وروح ءادم إلى الله هي إضافة تشريف . ويقال مثل ذلك في قوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل : { أَنْ طَهِّراَ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ } فالكعبة هي مكانٌ مشرّفٌ عند الله . أما قوله تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهمْ مِن فَوْقِهِمْ } [ سورة النحل ] فالمقصود به فوقيّة القهر دون المكان والجهة .
ومعنى قوله تعالى في توبيخِ إبليسَ : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ سورة ص ] فَيَجُوزُ أن يُقَالَ المُرادُ بِاليَدَيْنِ العِنَايَةُ والحِفْظُ . ومعنى قوله تعالى : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [ سورة الفجر ] جاء أمرُ ربِّك أي أثرٌ من آثار قدرتة حيث تظهر أهوالٌ عظيمة يوم القيامة .
ويقال في قول الله تعالى :{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ سورة الحديد ] إنّ الله عَالِمٌ بكم أينما كنتم .
وأمَّا قولُهُ تعالى : { وقِيلَ اليَومَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا }[ سورة الجاثية ] فقد ذُكرَ على وجهِ المقابلةِ ومعناهُ تَرَكناكُم من رحمتِنا كما أنتم تركتم طاعةَ الله في الدنيا بالإيمان به .
وكذلك لا يجوزُ أن يُؤخذَ من قولِ الله تعالى : { إنَّ الله لا يَسْتَحْيِى أن يَّضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً }[سورة البقرة / 26] جواز تسميةِ الله بالمستحيي ، ومعنى الآية أننا لا نترك استحياءً كما يترُكُ البشرُ الشىءَ استحياءً ، معناه أنَّ الله لا يُحِبُّ تركَ إظهارِ الحَقّ فلا يتركُهُ للاستحياءِ كما يفعلُ الخلقُ، وهذا مستحيلٌ على الله . وأما قولُهُ تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتىَّ نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [سورة محمد/31] فَلَيْسَ معنى ذلك أنّه سوف يعلم المجاهدين بعد أن لم يكن عالماً بِهم بالامتحانِ والاختبار، وهذا يستحيلُ على الله تَعَالَى، بل معنى الآيةِ حتى نُمَيِّزَ أي حتىَّ نُظْهِرَ للعباد المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم . ويكفر من يقول إن الله تعالى يكتسب علماً جديداً . وقوَل الله تبارك وتعالى : { الله نُورُ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ } [سورة النور] معناه أن الله هادي أهل السموات والمؤمنين من أهل الأرض لنور الإيمان . فالله تعالى ليس نورًا بمعنى الضوء بل هو الذي خلقَ النور . قال تعالى في سورة الأنعام : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } أي خلق الظلمات والنور فكيف يمكن أن يكون نوراً كخلقه ؟! تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا . فلا يجوز اعتقاد أنَّ الله ذو لونٍ أو ذو شكلٍ . وأمّا ما ورد في الحديث أن الله جميلٌ فليس معناه جميل الشكل وإنما معناه جميل الصفات أومُحْسِن . وأما النُّزُولُ المذكورُ في حديثِ : (( يَنـزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا )) فأحسنُ ما يُقالُ في ذلك هو نزولُ المَلَكِ بأمرِ الله فينادي مُبلغاً عن الله تلك الكلمات : (( من ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له من ذا الذي يستغفرني فأغفرَ له من الذي يسألني فأُعطيَهُ )) فيمكثُ المَلَكُ في السماء الدنيا من الثلث الأخير إلى الفجر . أما من يقولُ ينـزلُ بلا كيفٍ فهو حقٌّ ، لأنه لما قال بلا كيفٍ نفى الحركة والانتقال من عُلوٍ إلى سُفلٍ . والله تعالى غنيٌّ عن العالمين أي مستغنٍ عن كلّ ما سواه أزلاً وأبدًا وتفتقر إليه كلّ الكائنات . فلا يحتاج الله تعالى إلى مكانٍ يقوم به أو يحلّ به أو إلى جهةٍ ، لأنه تعالى موجودٌ قبلَ المكان بلا مكان ، وهو الذي خلق المكان فليس بحاجة إليه .
وليس المقصود بالمعراج الوصول بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه ، إنما القصد من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على عجائب في العالم العلوي وتعظيم مكانته ، ورؤيته صلى الله عليه وسلم لله بفؤاده من غير أن يكون الله تعالى في مكان . قال سيّدنا الخليفة الراشد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : " كَانَ الله وَلا مَكَان وهوَ الآنَ عَلَى ما عَليه كَان " .
وليس محورُ الاعتقاد على الوهم بل على ما يقتضيه العقلُ الصحيحُ السليمُ الَّذي هو شاهدٌ للشرع ، ذلك لأنَّه لو كان لله تعالى مكانٌ لكانَ له مقدارٌ ، أبعادٌ وحدودٌ ومن كان كذلك كان مُحْدَثاً أي مَخْلُوقًا ولم يكن إلهاً . وكما صحّ وُجودُ اللهِ تعالى بلا مكانٍ قَبل خَلق الأماكن والجِهاتِ ، يَصِحُّ وجودُهُ بعد خَلْقِ الأماكنِ بلا مَكانٍ . وهذا لا يَكونُ نَفياً لوجودِهِ تعالى . قال الإمام ذو النُّون المصري : " مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بَبَالِكَ فَالَّلهُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ ".
الحمد لله رب العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=135