أحكام الأضحية. عيد الأضحى المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلَّى الله على رسول الله وسلَّم وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وبعد.
الأضحيةُ سنةٌ ، روى البيهقي : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسناتٍ في ميزانهِ يوم القيامة".
ما يجزئ في الأضحية
ويجزئ في الأضحية جذعٌ من الضأنِ أو الثنيُ من المعزِ أو الإبلِ أو البقرِ والجذعُ من الضأنِ ما له سنةٌ على الأصح أو أسقط مقدمَ أسنانهِ وقيل ستة أشهرٍ وقيلَ ثمانية، والثني من المعزِ ما له سنتان ودخل في الثالثة، وقيلَ سنة، ومن البقرِ سنتان، ومن الإبلِ خمسُ سنينَ كاملةٍ ويجزئ ما فوق الجذعِ والثني وهو أفضلُ ويجزئ الذكرُ والأنثى ولا يجزئ فيهما معيبٌ بعيبٍ يؤثرُ في نقصِ اللحمِ تأثيرًا بينًا أي ظاهرًا كالعرجاء البينِ عرجُها أو العوراء ولا يجزئ من قُطع من أُذنهِ جزءٌ بَيِن.
ويجزئ الخصي وذاهبُ القرنِ ومكسورُ القرنِ والتي لا أسنانَ لها إن لم تكُن هزُلت.
وتجزئ الشاة عن واحدٍ والبدنةُ عن سبعةٍ والبقرةُ عن سبعةٍ سواءٌ كانوا أهل بيتٍ واحدٍ أو أجانِبَ ولو كانَ بعضُهم يُريدُ أضحية وبعضهم يريدُ اللحم جازَ.
وأفضلُ الأضحيةِ أحسنُها وأسمنُها وأطيبُها وأكملُها، والأبيضُ أفضلُ من الأغبرِ والأغبرُ أفضلُ من الأبلقِ والأبلقُ أفضلُ من الأسود، والأغبرُ هو الذي يعلو بَياضهُ حمرةٌ، والأبلقُ هو الذي بعضهُ أبيض وبعضهُ أسود.
والشاة أفضلُ من المـُـــشاركةِ بسُبعِ بدنةٍ أو سُبع بقرةٍ .
قال الشافعي رحمهُ الله : وشاةٌ جيدةٌ سمينةٌ أفضلُ من شاتين بقيمتها فإنَ الغرض من الأضحيةِ طِيبُ المأكولِ.
ولو كانَ عليها صوفٌ لا منفعةَ لها في جزهِ ولا ضررَ عليها في تركهِ لم يجُز له جزهُ وإن كانَ عليها في بقائها ضرر جاز له جزه وينتفع بهِ فلو تصدقَ بهِ كانَ أفضل.
واعلم أنهُ صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشينِ أملحين ذبحهما بيده الشريفة وسمى وكبر، ونحرَ من البُدنِ التي أهداها في حجةِ الوداع ثلاثًا وستينَ بدنة بيده.
كيفية ذبح الأضحية
ويستحبُ للرجلِ أن يتولى ذبحَ أضحيتهِ وهديهِ بنفسهِ، ويستحبُ للمرأةِ أن تستنيب رجلاً يذبحُ عنها، وينوي عند ذبحِ الأضحية أو الهدي المنذورين أنهما ذبيحةٌ عن هديهِ المنذور أو أضحيتهِ المنذورة وإن كان تطوعًا نوى التقرب بها إلى الله تعالى، ولو استناب في ذبح هديه وأضحيتهِ جازَ، ويستحبُ أن يحضر صاحبها عند الذبح، روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها : "قومي إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يُغفرُ لكِ ما سلف من ذنبك" والأفضل أن يكون النائب مسلما ذكرا، فإن استناب كافرا كتابيا أو امرأةً صح لأنهما من أهل الذكاةِ، والمرأة الحائض والنفساء أولى من الكافرِ الكِتابي، وينوي صاحب الهدي أو الأضحية عند الدفع إلى الوكيل أو عند ذبحه، فإن فوض إلى الوكيل جاز إن كان مسلما مميزا، فإن كان كافرا لم يصح لأنه ليس من أهل النية في العبادات، بل ينوي صاحبها عند دفعها إليه أو عند ذبحه.
ويستحبُ أن يوجه مذبح الذبيحةِ إلى القبلةِ، وأن يُسمي اللهَ تعالى عند الذبحِ (وقال أبو حنيفة : إن ترك الذابحُ التسمية عمدًا لم تؤكل ذبيحته وإن تركها ناسيا أُكلت) ويصلي على النبي فيقول : بسم الله والله أكبر وصلى الله على رسوله محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم اللهم منك وإليك فتقبل مني أو يقول تقبل من فلان صاحبها إن كان يذبح عن غيرهِ. لو ضحى عن غيره بغير إذنه أو عن ميتٍ لا يقع عنه إلا أن يكون أوصاه الميت ولا يقع عن الـمُباشر أيضا لأنه لم ينوها عن نفسه.
ولا يجوزُ بيع شئ من الأضحية ولا الهدي سواءٌ كان واجبًا أو تطوعا فيحرم بيع شئ من لحمها وجلدها وشحمها وغير ذلك من أجزائها فإن كانت واجبة وجب التصدق بجلدها وغيره من اجزائها وإن كانت تطوعا جاز الانتفاع بجلده أي بغير نحو بيعه واعطائه أجرة للجزار ويجوز ادخار لحمها وبعض شحمها للأكل والهدية.
وقتُ الأضحية
يدخل وقت الأضحيةِ والهدي متطوع بهما والمنذورين إذا مضى قدر صلاة العيد وخطبتينِ مُعتدلتين بعد طلوع الشمس يوم النحر سواءٌ صلى الإمامُ أم لم يُصل وسواء صلى المضحي أم لم يصلِ ويبقى إلى غروب الشمس من ءاخر أيام التشريق أي الثالث عشر من ذي الحجة، ويجوزُ في الليل لكنه مكروهٌ، والأفضل أن يذبح عقيب رمي جمرة العقبة قبل الحلق إن كان حاجًا، فإن فاتَ الوقتُ المذكورُ فإن كانت الأضحية أو الهدي منذورين لزمه ذبحهما وإن كان تطوعا فقد فات الهدي والأضحية في هذه السنة. وأما الدماء الواجبة في الحج بسبب التمتع أو القران أو الُلبسِ أو غير ذلك من فعل محظور أو ترك مأمورٍ فوقتها من حين وجوبها لوجود سببها ولا تختص بيوم النحر ولا غيره لكن الأفضل فيما يجب منها في الحج أن يذبحه يوم النحر بمنىً في وقت الأضحية.
والسنة في البقر والغنم الذبح مضجعةً على جنبها الأيسر مستقبلة القبلة روى البيهقي : أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسناتٍ في ميزانهِ يوم القيامة".
لا يجوز أن يأكل من المنذور شيئًا أصلاً ويجبُ تفريق جَميع لحمهِ وأجزائه. أما التَطوع فلهُ أن يأكل منهُ ويهدي حتى الأغنياء، والسنة أن يأكل من كبد ذبيحته أو لحمها شيئا قبل الإفاضة إلى مكة.
فائدة : يستحب التكبير من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلوا العصر من ءاخر أيام التشريق. خلف الفرائض المؤداة والمقضية وخلف النوافل وصلاة الجنازة. والتكبير أن يقول : الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ويكرر هذا ما تيسر له، وإن زاد : الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا الله والله أكبر. فهذا حسن......والله أعلم وأحكم.
ملاحظة: إن من دخل عليه العشر وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا كما روت ذلك أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج حديثها مسلم وأخذ بذلك الشافعي وأحمد وعامة فقهاء الحديث. ولفظ الحديث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره"، وفي لفظ في مسلم: عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا".
بابُ الأُضْحِيَّةِ
هيَ بضَمِّ الهَمزة وكَسْرِها، وتَشدِيدِ اليَاءِ وتَخفِيفِها، ويُقَالُ: ضَحِيَّةٌ، وأَضْحَاةٌ: مَا يُذبَحُ مِنَ النَّعَم تَقَرُّبًا إلى اللهِ يَومَ النَّحْرِ، وأيّامَ التَّشرِيق.
الأضحِيَةُ سُنّةٌ لحديثِ التّرمذيّ والحاكم: « مَا عَمِلَ ابنُ ءادَمَ يَومَ النَّحْرِ مِن عَمَلٍ أحَبَّ إلى اللهِ تَعالى مِنْ إراقَةِ الدَّمِ إنّها لَتَأتي يومَ القِيَامَةِ بقُرُونِها، وأَظْلَافِها، وإنَّ الدّمَ لَيَقَعُ بمَكَانٍ مِنَ اللهِ قَبْلَ أنْ يَقَعَ على الأرضِ، فَطِيْبُوا بِها نَفْسًا » (قال المناويّ في التّيسِير: ليَقَع مِنَ اللهِ بمكَان أي بمَوضِع قَبُولٍ عَالٍ، يَعني يَقبَلُه اللهُ عندَ قَصدِ القُربَةِ بالذَّبْح قَبلَ أن يقَع على الأرضِ أي قَبلَ أن يُشَاهِدَه الحَاضِرُونَ). فلَيسَت بواجِبَةٍ إلّا أن يَنْذِرَ ـ بكَسر الذّال وضَمِّها ـ قالَه النَّوويّ. وقالَ في الكفايةِ: الأَولى أن تُقرأ بالبناءِ للمَفعُول.
قال صلى الله عليه وسلم: « أُمِرتُ بالنَّحْرِ وهوَ سُنَّةٌ لَكُم » رواه التّرمذي. ورَوى الدّارقُطني حديثَ: « كُتِبَ عَلَيَّ النَّحْرُ ولَيسَ بوَاجِبٍ عَلَيكُم ». ثم قالَ في العُدَّةِ: هيَ سُنَّةٌ على الكِفَايةِ إذَا فَعَلَها واحِدٌ مِن أهلِ البَيتِ كفَى عن الجَمِيع، وإنْ تَركُوها كُرِهَ لهم، لِمَا في الموطَّأ عن أبي أيّوبَ الأنصَاريّ قَال: « كُنّا نُضَحِّي بالشّاةِ الواحِدَةِ يَذبَحُها الرّجلُ عنه وعن أهلِ بَيتِه »، ثم تَباهَى النَّاسُ بَعْدُ بها وصَارَت مُبَاهَاةً. والمخَاطَبُ بها الحُرُّ المستَطِيعُ، وسَواءٌ الحَاضِرُ، والبَادِي، والمسَافِرُ، والحَاجُّ، وغَيرُه.
[ويَدخُلُ وَقتُها] إذا انبَسطَتِ الشَّمسُ أي إذا ارتَفعَت يومَ النَّحَرِ قِيْد رُمح، ومضَى قدرُ صلاةِ العيدِ والخُطبتَين المشتملُ على أقلِّ ما يجزئ، وقيل: التي صلاها وخطبَها النبي صلى الله عليه وسلم المأتيُّ فيها بالتكبيرات وقراءةِ سورة ق و {اقتربت}. وروي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ أوّلَ مَا نَبدأ بهِ في يومِنا هَذا أنْ نُصَلّيَ ثم نَرجِعَ فنَنْحَرَ فمَن صَلّى ذلكَ فقَد أصَابَ سُنّتَنا ومَن ذَبَح قَبْلَ ذَلكَ فَإنّما هوَ لحمٌ قَدَّمَه لأهْلِه لَيسَ مِنَ الْمَناسِكِ ». واعتِبَارُ الارتِفَاعِ مَبنيٌّ على اعتِبَارِ ذلكَ في دُخولِ وقتِ صَلاةِ العِيد، ومَن قال يَدخُلُ وَقتُها بمجَرَّدِ الطّلُوع وهوَ المصَحَّحُ في زَوائد الرّوضَة وشَرح المهذَّب، والتّصحِيح اكتَفَى به، وقال: الارتفَاعُ فَضِيلَةٌ.
وَيَخْرُجُ وَقْتُها بخُروجِ أيّامِ التَّشريقِ لحديثِ ابنِ حبّان والبيهقيّ: « أيّامُ مِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ ». وفي روايةٍ: « في كُلِّ أيّامِ التَّشرِيقِ ذَبْحٌ ». فَمَنْ لَمْ يُضَحِّ حتّى مَضَى الوَقتُ فَإن كانَ تَطَوُّعًا لم يُضَحِّ بَعْدَه لأنّهُ ليسَ بوَقتِ الأُضحِيَّة، وإنْ كانَ مَنذُورًا لَزِمَهُ أنْ يُضَحِّيَ لأنّهُ قَد وَجَبَ علَيه ذَبْحُه فَلا يَسقُط بفَواتِ الوَقتِ كزكاةِ الفِطْر ويَكُونُ قَضَاءً صَرّحَ به البَندَنِيجِيُّ وغَيرُه. وزادَ أبو إسحَاقَ الْمَروَزيُّ: أنّه لو ذَبحَه في أيّامِ النَّحْرِ مِن قَابِلٍ كانَ قَضاءً أيضًا لأنَّ الأوّلَ تَعيَّن لها.
والمستَحَبُّ لِمَنْ دخَل علَيهِ عَشْرُ ذِي الحِجَّة وهوَ غَيرُ مُحرِم، وأرادَ أنْ يُضَحّي أنْ لا يَحْلِقَ شَعرَهُ، ولا يُقَلِّمَ ظُفرَهُ، حتى يُضَحِّيَ لحديث مسلم: « إذَا رأيتُم هِلالَ ذِي الحِجَّةِ وأرَادَ أحَدُكُم أنْ يُضَحِّي فلْيُمسِكْ عن شَعَره وظُفرِه » والمعنَى فيه أن يَبقَى كاملَ الأجزاءِ ليَشملَها العِتقُ مِنَ النّار، وقِيل: للتّشَبُّه بالْمُحْرِمِينَ فإنْ خَالفَه كُرِه.
ويُجزئ في الأضحِيَةِ الجَذَعُ مِنَ الضَّأنِ، وهوَ مَا لَهُ سِتّةُ أشهُرٍ ودَخَل في السَّابِع، وفي وَجْه: مَا لهُ سَنَةٌ ودَخَلَ في الثّانيَة، وعلَيه أكثَرُ الأصحَابِ، وصَحَّحه الشَّيخَان. رَوى مسلمٌ حَديثَ: « لا تَذبَحُوا إلا مُسِنَّةً إلّا أن تَعسُر علَيكُم فاذَبَحوا جَذعَةً مِنَ الضَّأن ». والثّنِيّةُ مِنَ المعْزِ، والإبلُ، والبَقَر، قالَ الماوَرديّ: بالإجماع. والثّنيّةُ مِنَ المعْز ما لها سنَةٌ تَامَّةٌ ودخَلَت في الثّانيَة، وفي وَجْه مَا لها سنَتانِ ودخَلَتْ في الثّالثَةِ وصحّحَه الشَّيخَان. والثّنِيّةُ مِنَ البقرِ ما لها سَنَتانِ ودخَلَت في الثّالثة. والثّنيةُ مِنَ الإبلِ ما لَهَا خَمسُ سنينَ ودخَلَت في السَّادسة، وتُجزئ البَدَنَةَ عن سَبعةٍ، والبقرةُ عن سبعةٍ، روى مسلم عن جابرٍ قال: « نَحَرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبِيَةِ البَدنةَ عن سَبعةٍ والبقَرةَ عن سَبعة ». وإن كانَ بَعضُهم يُرِيدُ اللّحم، وبعضُهُم يريدُ القُربَةَ جازَ، وإذا فعَلُوا ذلكَ قُسِمَت بَينَهُم، إن قُلنا القِسمَةُ: إفرَازٌ وهوَ الأصَحُّ في شَرح المهذَّب، وإن قُلنا: بيعٌ فَلا، حَذَرًا مِن بَيعِ اللّحمِ الطَّرِيِّ بمثلِه، ومِن بَيعِ لَحْم الأضحِيَّة وهَذا هو الأصحُّ في الرّوضَة في بابِ القِسمَةِ.
وطَرِيقُ الانفِصَالِ أن يُملِّكَ الحِصّةَ المضَحَّى بها لثَلاثةٍ مِن الفُقَراء ثم يَبِيعُونَها بدَراهمَ، أو يَصبِرُوا إلى أنْ يَيْبَسَ اللَّحْمُ فيَقتَسِموه أعني الفُقَراء. ومَن لم يُرِدِ القُربَة يَطبُخُونَه ويَأكُلُ الجَمِيع. أمّا الشَّاةُ فإنّما تُجزئ عن واحِدٍ بالإتّفاق، فلَو اشتَركَ اثنانِ في شَاتَين على الشُّيُوع لم يُجْزِ على الأصحّ. وعُلِمَ مما تقَدَّمَ أنّ الأُضحِيَةَ تَختَصّ بالإبل، والبقَر، والغنَم، ونُقِل فيهِ الإجماع، وأفضَلُها البَدنَة لكَثْرة اللّحْم، ثم البقَرةُ لأنّها كسَبْع شِيَاه، ثم الجَذَعَةُ منَ الضّأن لأنّها أطْيَبُ لحمًا مِنَ المعْز. وقَد رُتّبَت الثّلاثُ هَكذا في حَديثِ الرَّوَاح إلى الجَمعة. ثم الثَّنيّةُ مِن المعْز أفضَل مِن مُشَاركةٍ في بدَنَةٍ أو بقَرة لانفِرادِه بإراقَةِ الدّم المطلُوب. وأفضَلُها البَيضَاءُ، ثم الصَّفراءُ، ثم العَفراءُ وهيَ التي لم يَصْفُ بيَاضُها، ثم السّوداءُ قال تعالى:{ومَن يُعظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإنّها مِن تَقوَى القُلُوب { 32} [سورة الحج] فُسِّرَ باستِسْمَانها واستِحسَانِها والبِيْضُ أحسَن.
ورَوى الشّيخان: «أنّه صلى الله عليه وسلم ضَحَّى بكَبشَينِ أقْرَنَين أَمْلَحَين»، والأملَحُ: الذي بيَاضُه أكثَرُ مِنَ السَّواد. ورَوى الحاكمُ حديثَ: «دَمُ عَفرَاءَ أحَبُّ إلى اللهِ مِن دَمِ سَوْدَاوَيْن».
ولا يُجزئ فيها مَعِيبٌ بعَيْبٍ يُنقِصُ اللَّحمَ، إمّا في الحالِ كقَطْع فِلقَةٍ مِنَ الفَخِذ ونَحوِه، وإمّا في المآلِ كالعَرَج البَيِّن، لأنّ المقصُودَ مِنها اللّحمُ فاعتُبِرَ نَفيُ ما يُنقِصُه، كمَا اعتُبِر في عَيبِ الْمَبِيع ما يُنقِصُ الماليّةَ لأنّه المقصُودُ فيها. والأصلُ فيهِ حديثُ: «أربَعٌ لا تُجزئ في الأضَاحِيّ العَوراءُ البَيِّنُ عوَرُها، والمريضَةُ البَيِّنُ مرَضُها. والعَرجَاءُ البَيّنُ عرَجُها والعَجْفَاءُ التي لا تُنْقِي" أي لا مُخَّ لها" (المخُّ هوَ هذا السّائلُ الذي في السّاقِ) (والعَجفَاءُ الْمَهزُولَةُ) ـ رواه الأربعةُ (قال ملا علي القاري في المرقاة: والعَرجَاءُ وهوَ أن يمنعَها العرَجُ المشْي والعَوراءُ أي عمَاها في عَينٍ والمريضَةُ البَيّنُ مرَضُها وهي التي لا تَعتَلِف)، وقال الترمذي: حسن صحِيح. نُصّ على هذه الأربعَةِ وفُهِم معناهُ وهو اتّصَافُ الذَّبيحَةِ بنَقصِ مَا هوَ مُستَطَابٌ مِنَ اللّحم.
والأفضَلُ أنْ يَذبحَها بنَفسِهِ اقتِدَاءً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحَابِه ولأنَّها قُربَةٌ فنُدِبَت مُبَاشَرتُها. واسْتَثنَى الماوَرديُّ المرأةَ فقال: المستحَبُّ لها أنْ تُوكّلَ وجَزَم بهِ في منَاسكِه. ويجُوزُ لهُ أن يَستَنِيبَ غَيرَه. والأوْلى أن لا يَستَنِيبَ إلّا مُسلِمًا عَالِمًا، لأنَّه أعلَمُ بسُنَّةِ الذَّبْح. فإن لم يُحْسِنِ الذَّبْحَ فالأفضَلُ أن يَشهَدَ ذَبْحَها لقَولِه صلى الله عليه وسلم لفَاطمَةَ: «قُومِي فاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإنّه يُغفَرُ لكِ بأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقطُرُ مِن دَمِها كُلُّ ذَنبٍ عمِلْتِيْه»، قال عِمرَانُ بنُ حُصَين: يا رسول الله هذَا لكَ ولأهلِ بَيتِكَ خَاصَّة ؟ أم للمُسلمِينَ عَامَّة ؟ قال: «بل للمُسلمِينَ عَامَّةً». رواه الحاكم وصحّحَه البيهقي.
والمستَحَبُّ في أضحِيَةِ التّطَوُّع أنْ يَأكُلَ الثُّلُثَ، ويتَصدَّقَ على الفُقَراء بالثُلُثِ، وَيُهديَ إلى الأغنياءِ الثُلُثَ في أحَدِ القَولَين وهوَ الأظهَرُ والجَديد. قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 36} [سورة الحج]
﴿وَالْبُدْنَ﴾ جَمْعُ بُدْنَةٍ سُمِّيَتْ لِعِظَمِ بَدَنِهَا، وَفِي الشَّرِيعَةِ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ﴿جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ أَيْ مِنْ أَعْلَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى اسْمِهِ تَعْظِيمٌ لَهَا ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ النَّفْعُ فِي الدُّنْيَا وَالْأَجْرُ فِي الْعُقْبَى ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ عِنْدَ نَحْرِهَا ﴿صَوَآفَّ﴾ أَيْ قَائِمَاتٍ قَدْ صَفَفْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَأَرْجُلَهُنَّ ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ وُجُوبُ الْجَنُوبِ وُقُوعُهَا عَلَى الْأَرْضِ ،أَيْ إِذَا سَقَطَتْ جُنُوبُهَا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ نَحْرِهَا وَسَكَنَتْ حَرَكَتُهَا ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ إِنْ شِئْتُمْ ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ﴾ السَّائِلَ، ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ الَّذِي يُرِيْكَ نَفْسَهُ وَيَتَعَرَّضُ وَلَا يَسْأَلُ، وَقِيلَ الْقَانِعُ الرَّاضِي بِمَا عِنْدَهُ وَبِمَا يُعْطَى مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْ قَنِعْتُ قَنَعًا وَقَنَاعَةً وَالْمُعْتَرُّ الْمُتَعَرِّضُ لِلسُّؤَالِ ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ﴾ أَيْ كَمَا أَمَرْنَاكُمْ بِنَحْرِهَا سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ أَيْ ذَلَّلْنَاهَا لَكُمْ مَعَ قُوَّتِهَا وَعِظَمِ أَجْرَامِهَا لِتَتَمَكَّنُوا مِنْ نَحْرِهَا ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لِكَيْ تَشْكُرُوا إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.) قالَ مَالِكٌ: أحسَنُ مَا سَمِعتُ أنّ القَانعَ الفَقِير، والْمُعتَرَّ الزّائر، وكذا قَالَه الشّافعِيُّ في اختِلافِ الحديث. (كتابٌ اسمُه اختِلافُ الحَدِيث للشَّافِعيّ)
قالَ المصنّف في المهَذَّب: جعَلَها بَينَ ثَلاثَةٍ فدَلَّ على أنّها بَينَهُم أثْلاث. وفيهِ قَولٌ ءاخَرُ قَديمٌ أنّه يَأكُلُ النِّصفَ ويتَصَدَّقُ بالنِّصفِ لقَولِه تَعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ 28} [سورة الحج] جَعلَها بينَ اثنَين، فدَلَّ على أنّها بَينَهُما نِصفَان. فإنْ أكَلَ الكُلَّ فقَد قِيل: لا يَضمَنُ بِنَاءً على أنّه لا يَجِبُ التَّصَدُّق بشَىءٍ مِنها لأنّ القَصدَ إرَاقَةُ الدَّمِ بنِيَّةِ القُربَة، والْمَذهَبُ أنّه يَضمَنُ بناءً على أنّهُ يَجِبُ التّصَدُّقُ لظَاهِر الأمرِ في الآيةِ السّابقَة. وعلى هَذا ففِيما يَضمَنُه وَجْهَان: أصَحُّهُما القَدْرُ الذي يُجْزِئَه التَّصَدُّقُ بهِ وهُو أدْنى جُزْء يَقَعُ عليه الاسم، لأنّه لو اقتَصَر على إخراجِه في الابتداءِ أجزَأ فَلا يَضمَنُ في الانتهاءِ غَيرَه. وقيلَ: يَضمَنُ القَدْرَ الْمُسْتَحَبّ، وهوَ النِّصْفُ على القَدِيم، أو الثُّلثُ على الجَدِيد. ويُخَالِفُ الابتِداءَ لأنّ إخراجَ الجُزء مُوكَلٌ إلى اجتِهادِه فلَمّا أكَلَ الكُلَّ ظَهَرَ حَيفُهُ فأُسقِطَ اجتِهادُه ورَجَع إلى ما اقتَضَاهُ إطلاقُ الآيةِ.
﴿لِيَشْهَدُوا﴾ لِيَحْضُرُوا ﴿مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ نَكَّرَهَا لِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَافِعَ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ شُرِعَتْ لِلِابْتِلَاءِ بِالنَّفْسِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، أَوْ بِالْمَالِ كَالزَّكَاةِ، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْحَجُّ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَحَمُّلِ الْأَثْقَالِ وَرُكُوبِ الْأَهْوَالِ وَخِلَعِ الْأَسْبَابِ أي خِيَار الْمَالِ وَقَطِيعَةِ الْأَصْحَابِ وَهَجْرِ الْبِلَادِ وَالْأَوْطَانِ وَفُرْقَةِ الْأَوْلَادِ وَالْخِلَّانِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ، فَالْحَاجُّ إِذَا دَخَلَ الْبَادِيَةَ لَا يَتَّكِلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى عَتَادِهِ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ زَادِهِ، فَكَذَا الْمَرْءُ إِذَا خَرَجَ مِنْ شَاطِئِ الْحَيَاةِ وَرَكِبَ بَحْرَ الْوَفَاةِ لَا يَنْفَعُ وَحْدَتَهُ إِلَّا مَا سَعَى فِي مَعَاشِهِ لِمَعَادِهِ وَلَا يُؤْنِسُ وَحْشَتَهُ إِلَّا مَا كَانَ يَأْنَسُ بِهِ مِنْ أَوْرَادِهِ ، وَغُسْلُ مَنْ يُحْرِمُ وَتَأَهُّبُهُ وَلُبْسُهُ غَيْرَ الْمَخِيطِ وَتَطَيُّبُهُ مِرْآةٌ لِمَا سَيَأْتِي عَلَيْهِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَى سَرِيرِهِ لِغُسْلِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُطَيَّبًا بِالْحَنُوطِ مُلَفَّفًا فِي كَفَنٍ غَيْرِ مَخِيطٍ، ثُمَّ الْمُحْرِمُ يَكُونُ أَشْعَثَ حَيْرَانَ فَكَذَا يَوْمَ الْحَشْرِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَبْرِ لَهْفَانَ، وَوُقُوفُ الْحَجِيجِ بِعَرَفَاتٍ آمِلِينَ رَغَبًا وَرَهَبًا سَائِلِينَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَقْبُولٍ وَمَخْذُولٍ كَمَوْقِفِ الْعَرَصَاتِ أي عَرَصَاتِ اَلْقِيَامَةِ أي مواقف القيامة) لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمنهم سَعِيدٌ، وَالْإِفَاضَةُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَسَاءِ هُوَ السَّوْقُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَمِنًى هُوَ مَوْقِفُ الْمُنَى لِلْمُذْنِبِينَ إِلَى شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، وَحَلْقُ الرَّأْسِ وَالتَّنْظِيفُ كَالْخُرُوجِ مِنَ السَّيِّئَاتِ بِالرَّحْمَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مِنَ الْإِيذَاءِ وَالْقِتَالِ أُنْمُوذَجٌ لِدَارِ السَّلَامِ الَّتِي هِيَ مَنْ نَزَلَهَا بَقِيَ سَالِمًا مِنَ الْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِمَكَارِهِ النَّفْسِ الْعَادِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ حُفَّتْ بِمَتَالِفِ الْبَادِيَةِ، البَوَادِي فِيهَا هَلَاكٌ، فِي اَلْمَاضِي لَيْسَ فِي اَلْقُرُونِ اَلثَّلَاثَةِ اَلْأُولَى بَلْ مُنْذُ نَحْوِ مِائَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ اَلْعَرَبُ اَلَّذِينَ كانوا قَبْلَ مَكَّةَ يَسْلُبُونَ اَلنَّاسَ اَلْحُجَّاجَ حَتَّى لِبَاسَهُمْ مِنْ شِدَّةِ اَلْبُؤْسِ، أَمَّا فِي اَلْمَاضِي أيام السَّلَف كَانُوا يُكْرِمُونَ اَلْحُجَّاجَ) فَمَرْحَبًا بِمَنْ جَاوَزَ مَهَالِكَ الْبَوَادِي شَوْقًا إِلَى اللِّقَاءِ يَوْمَ التَّنَادِي
﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ عِنْدَ الذَّبْحِ ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَآخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ أبي يوسفَ ومحمد هِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ أَيْ عَلَى ذَبْحِهِ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ قَوْلَهُمَا، وَالْبَهِيمَةُ مُبْهَمَةٌ فِي كُلِّ ذَاتِ أَرْبَعٍ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَبُيِّنَتْ بِالْأَنْعَامِ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ مِنْ لُحُومِهَا، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ، وَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَأَشْبَهَ الْأُضْحِيَةَ وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْ بَقِيَّةِ الْهَدَايَا ،الْبَهِيمَةُ أَعَمُّ مِنْ اَلْأَنْعَامِ، وَاَلْهَدَايَا هِيَ اَلْإِبِلُ أَوْ اَلْبَقَرُ أَوْ اَلْغَنَمُ تُذْبَحُ لِلْفِدْيَةِ، أَمَّا مَا يَسُوقُهُ اَلْحَاجُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى مَكَّةَ لِيَذْبَحَهُ هُنَاكَ تَطَوَّعًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، أَمَّا الآنَ هَذَا تُرِكَ، فِي اَلْمَاضِي كَانَ اَلْحَاجُّ يَسوقُ اَلْهَدْيَ مَعَهُ مِنْ بَلْدِهِ لِيَذْبَحهُ هُنَاكَ فَيُطْعِمَ اَلنَّاسَ) ﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ﴾ الَّذِي أَصَابَهُ بُؤْسٌ أَيْ شِدَّةٌ ﴿الْفَقِيرَ﴾ الَّذِي أَضْعَفَهُ الْإِعْسَارُ. ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ ثُمَّ لْيُزِيلُوا عَنْهُمْ أَدْرَانَهُمْ، أَيْ اَلْأَوْسَاخَ، فِي اَلْمَاضِي اَلْحَاجُّ يَصِيرُ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، كَانَ اَلْأَجْرُ فِي اَلْمَاضِي أَكْثَر) كَذَا قَالَهُ نِفْطَوَيْهِ، قِيلَ قَضَاءُ التَّفَثِ قَصُّ الشَّارِبِ وَالْأَظَافِرِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادُ، والاستِحدَادُ هوَ حَلْقُ العَانَةِ. ، وَالتَّفَثُ الْوَسَخُ، وَالْمُرَادُ قَضَاءُ إِزَالَةِ التَّفَثِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَضَاءُ التَّفَثِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا)
وإنْ نَذَرَ أضحيَةً مُعَيّنَةً بأنْ قال: للهِ علَيَّ أنْ أُضَحِّيَ بهذه، زَالَ مِلْكُهُ عَنْها وصَارَتْ وَدِيعَةً عِندَه، بخِلافِ مَا إذَا نذَرَ عِتقَ عبدٍ مُعَيَّنٍ فإنّه لا يَزُولُ مِلكُه عنه، والفَرقُ أنّ الأُضحِيَةَ التِزامُ قُربَةٍ للهِ تَعالى في عَينٍ لِمَن هوَ أَهلٌ لِلْمِلك وهمُ المسَاكِينُ، فنَقلُ الْمِلك كالوَقْف علَيهم، بخلافِ العِتقِ فَإنّه التِزامُ قُربَةٍ للهِ تعالى في عَينٍ لِمَن ليسَ مِن أَهلِ الْمِلْك في الحَال، بل بهِ يَصِيرُ مَالكًا كأمِّ الوَلَدِ. ولم يَجُز بَيْعُهَا لزَوالِ الْمِلكِ ولهُ أن يَركبَها بالمعرُوف إذا احتَاج إليها كذَا عَبّر به في المهَذَّب، ونقِلَ عن العِراقِيِّين، وأطلَقَ الخُراسَانيّون الجوازَ، ولم يُقَيّدُوه بالحَاجَة. ومَشَى علَيهِ في الرّوضَةِ وأَصْلِها، والأوّلُ أَوْفَق لحَديث مسلم عن جابِر أنّه سُئل عن ركوبِ الهَدْي فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اركَبْها بالمعرُوفِ إذَا أُلجِئْتَ إليها حتّى تَجِدَ ظَهْرًا» أي حتّى تَجِدَ مَركُوبًا آخَر.) (قال النووي في شرح مسلم: وفيهِ مذَاهِبُ مَذهَبُ الشّافعِيِّ أنّه يَركَبُها إذا احتَاج ولا يَركَبُها مِن غَيرِ حَاجَةٍ وإنّما يَركَبُها بالمعروف مِن غَيرِ إضْرارٍ وبهذا قالَ ابنُ المنذر وجمَاعةٌ وهوَ رِوايَةٌ عن مالِكٍ، وقالَ عُروَةُ بنُ الزُّبَير ومالِكٌ في الرِّوايةِ الأخرى وأحمَدُ وإسحَاقُ لهُ ركُوبُها مِن غَيرِ حَاجَةٍ بحَيثُ لا يَضُرُّها وبه قالَ أَهلُ الظّاهِر، وقال أبو حنيفةَ لا يَركَبُها إلّا أن لا يَجِدَ مِنهُ بُدًّا.اه)
فَإنْ وَلَدَتْ ذَبَحَ معَها ولَدَها سَواءٌ عَلِقَت بَعدَ النَّذْرِ أو قَبْلَه لأنّهُ مَعنًى يُزِيلُ الْمِلكَ فَاستَتْبَع الولَدَ كالعِتْق، وَلَهُ أنْ يَشرَبَ مِن لَبنِها مَا فَضَلَ عن ولَدِها بعدَ الوِلادَةِ، وإنْ لم يَجُز (له) أَكلُ الولَدِ (لأنها منذورة لأنّ النّاذر لا يأكل مِن نَذرِه) لأنّ اللَّبَن يُخلَفُ بخِلاف الولَد.
ورَوَى البَيهقيُّ عن عَليٍّ أنّه رأَى رَجُلًا يَسُوقُ بدَنَةً معَها ولَدٌ فقال: «لا تَشرَبْ مِن لبَنِها إلّا مَا فضَلَ عن ولَدِها فإذَا كانَ يَومُ النَّحْر فَانْحَرْها وولَدَها». قال الشّافعِيُّ: والتّصَدُّقُ بهِ أفضَلُ. ويجُوز أن يَسقِيَهُ غَيرَه بغَيرِ عِوَضٍ، ولا يَجُوز بَيعُه قَطعًا. وإنْ كانَ صُوفُها يَضُرُّ بها لو بَقِي إلى وَقتِ الذَّبْح، جازَ له أن يَجُزَّه ويَنتَفِعَ به قِيَاسًا على اللَّبَن، والأفضَلُ أنْ يتَصدَّقَ بهِ. فإنْ لم يَضُرَّ بها بقَاؤه لم يُجَزَّ. ولا يَأْكُل مِنْ لَحْمِهَا شَيئًا لأنّهُ إراقَةُ دَمٍ واجِبٍ فلم يَجُز الأكلُ مِنهُ كالدّمِ الواجِب في الإحرام، وقيلَ: يجوزُ أنْ يَأكُلَ لأنّ النّذْر يُحمَلُ على المعهُود في الشَّرع، والمعهودُ شرعًا في الأضحِيَة جَوازُ الأكل منها، وعلى الأوّلِ لو أكَل مِنها شيئًا ضَمِنَه بقِيمَتِه على الأصَحّ. وإنْ تَلِفَتْ قَبلَ إمكَانِ ذَبْحِها بآفَةٍ سمَاويّةٍ أو ضَلَّت مِن غَيرِ تَفرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْهَا لأنّها وَدِيعَةٌ عِندَه، وإنْ أتْلَفَهَا هوَ ضَمِنَهَا كالمودَع إذَا أَتْلَف الوَدِيعَةَ بأكْثَرِ الأمرَينِ مِنْ قِيمَتِهَا وقتَ الإتلاف، أو أضحِيَةٍ مِثْلِها، صَوابُه التّعبِيرُ بالواوِ بدَلَ أو. فإنْ زَادَتْ القِيمَةُ على مِثْلِهَا ولم يُمكن أن يَشتَري بالقّدْر الزّائِدِ أُضحِيَةً كَامِلَةً تصَدَّق بالفَاضِل دَراهِمَ، وقيلَ: يَشتَري به اللّحْمَ ويتَصدَّقُ بهِ لأنّ إراقةَ الدّمِ واللَّحمَ مَقصُودٌ فإذَا تعَذَّرَ أحَدُهُما سَقَطَ وبَقِيَ الآخَرُ، وقِيل: يُشَارِكُ بهِ في ذَبِيحَةٍ مُحافظَةً على إراقَةِ الدّمِ مَا أَمكَنَ. وهَذا ما صَحّحَه الشّيخَان، فإنْ أمكَن شِراءُ ذِبْحٍ كَامِلٍ لَزِمَه وَجْهًا واحِدًا، وسَواءٌ كانَ مِن جِنسِه أم لا. وإنْ لَمْ يَذْبَحْهَا حتى فاتَ الوَقتُ لَزِمَه أنْ يَذْبَحها بَعدَه، كمَا تقَدَّمَ في أوّلِ البَاب.
الحمد لله ربّ العالمين
https://www.islam.ms/ar/?p=224